تاريخيا مارس المصريون التعرى بحجج عديدة، أبسطها الفقر، ففى كتاب «مصر فى عيون الرحالة» قال الفرنسى شسنو إن أطفال الفلاحين فى القرن السادس عشر كانوا يظلون عرايا حتى العاشرة، والظاهرة تضرب جذورها فى مصر القديمة حيث تكشف تماثيل ورسومات كثيرة عرى الصغار، بل إن واحدا من آلهة مصر الفرعونية وهو الإله (حور -با- غرد) كان على هيئة طفل عارٍ، وفى تفسير الأمر اختلف العلماء، فقال بعضهم إن تلك الهيئة العارية رمز تجريدى للنقاء فى الطفولة، وقال آخرون إن الفنانين كانوا يجسدون ويرسمون أبناء الخدم والعبيد، بينما كانت أجساد الأغنياء والأسر الحاكمة كاسية. يتعرى المصريون أيضا احتجاجا، وهنا توثقها الأمثال والتعبيرات الشعبية، فتعبير «أكشف راسى وادعى عليه» واحدة من بين الجمل الكاشفة التى كانت تدور على ألسنة النسوة الغاضبات فى الريف والأحياء الشعبية، للدلالة على الغضب، والشعور بالظلم، وامتد الأسلوب الاحتجاجى الفريد إلى ألسنة المثقفين حديثا، فهدد سيد القمنى منذ عام ونصف تقريبا فى حوار لمجلة «نيوزويك الأمريكية» بأنه «سيقلع بلبوص» ويتصدى لكل محاولات سحب جائزة الدولة التقديرية منه، اقتربت عملية السحب أحيانا، خصوصا مع تقرير لمفوضى الدولة، يوصى بذلك، والجميع فى انتظار أن يوفى الرجل بوعده. ويمارس المصريون التعرى انتقاما، وفى كتاب تراث العبيد لعالم الاجتماع المجهول (ع.ع) إضاءة مفسرة، فيرى أن تعرية الخصم تراث مملوكى، ونوع من الانتقام الجنسى منتشر فى مجتمعات الذل، حيث لا ترى أوروبيا مثلا يفتخر باغتصابه رجلا أو امرأة، بينما تشكل بعض الحالات فى مجتمعاتنا انتقاما وتفاخرا بكسر معنويات الخصوم. بعض هذه التأثيرات تسللت نسبيا إلى مصر المعاصرة، لم تكن تعرية البلطجية فى التحرير، وتعليقهم على الأعمدة بعيدة عن هذا، وفى أثناء الثورة مارس بعض البلطجية الأمر فى حق ضباط من الشرطة، خلعوا ملابسهم وضربوهم ثم زفوهم فى تجريسة مملوكية بشعة. بعيدا عن الجسد مارس المصريون تعريتهم الخاصة للغة، نحتوها لتقترب من المعنى المباشر دون «لف أو دوران» ربما كانوا يطبقون ملاحظة ميشيل فوكو القائلة: «العقل لا يفهم العالم بشكل صحيح إلا إذا تطابقت الكلمات والأشياء» ففى تقرير بالغ المهنية ل«بى بى سى» عام 2008، عن الدعارة الرسمية فى القرن التاسع عشر، استعرض النص الرُّخص الرسمية المسجلة فى دار المحفوظات بالقلعة، كانت أسماء بائعات الهوى كاشفة بشكل فج، فهذه عزيزة «النجس» وتلك زوزو حسن «طرطور»!! أو «فلة الزايطة»، بل إن الألقاب التى أطلقت على المتورطات فى المهنة كانت دالة وعارية للغاية، فالقوادة هى «العايقة»، أما فتاة الفراش فتسمى «المقطورة». تبقى زاوية التعرى لإبراز القوة، وإثارة الهلع، فالبلطجى يكشف جسده ولو كان هزيلا ليتباهى بكم «البِشَل» أو وشم السجن، يظهر العارى مستثمرا جسده فى اجتذاب قدر هائل من الهيبة، يهرب الخصوم وتنفذ أوامره. فى السياسة تتسرب قيمة التعرى الانتقامى فى إطلاق ألقاب قاسية، فرئيس حزب معارض كانت مهمته فى عهد مبارك تفجير المعارضة، أو تهدئتها حسب الطلب يصبح «سيد سرنجة» الحائر بين «حقن البنج السياسى» و«حقن الهواء» القاتلة لتجارب الحرية. ويخلد فى الأدب والسياسة مَن مارس التعرى، ليقول للتاريخ إن خطايا الإنسان جزء من عظمته أحيانا.. وكان أحمد فؤاد نجم خير مثال برائعته الفاجومى. كان التحرير ميدانا لتعرى قوانا السياسية كثيرا، فقبل ما عرف بجمعة تورا بورا «تحدثت القوى الليبرالية قبل ساعات من مليونية تأكيد الهوية عن «التوافق ولم الشمل» أدركت للحظة أن تحدى التيارات الدينية يكشف عرى نخبويتها، واقتصار ممارستها السياسة على وسط القاهرة واستوديوهات الفضائيات، تحدث الشباب عن الثورة والمدنية دون الانخراط فى عمل سياسى جاد، يقارع فصائل تتخذ من الدين سلاحا للكسب السياسى، والتصفية المعنوية أحيانا، تركوا الأرياف وغياهب القرى، ثم تذكروا متأخرا أن عليهم التحالف فى كيان واحد. على الجانب الدينى كان هناك من يتعرى، ليستثمر جسده فى الهيبة، خرج عاصم عبد الماجد الزمر بكل سجله الحافل كإرهابى متقاعد، ليقول ذات مرة إن ميدان التحرير يجب أن يتطهر من المعتصمين. بينما تعرى صفوت حجازى من كل توافقية مزعومة، ويقول فى تصريحات أخيرة إن المسلم الحقيقى يعطى صوته ل«الحرية والعدالة» أو حزب النور. بعد الثورة شاهدنا مسلسلا لصراع الثوار العرايا.. تنظيمات اتهمت خصومها بالعلمانية والكفر لتصفّيهم معنويا، رفعت شعاراتها الدينية، وخلعت النسر من العلم المصرى وكتبت الشهادتين.. وأخرى خائفة من الانتقام الدينى، عارية من التنسيق والتنظيم والحشد، متدثرة بالعزلة.. وتدريجيا خلع الفلول أثواب الفضيلة ليواصلوا حفلات النفاق للمجلس العسكرى. الأسبوع الماضى كانت حفلة التعرى الأبرز، إذ اكتشف الجميع أن السبب الحقيقى لقلاقل الفترة الانتقالية يكمن فى البند رقم 9 من وثيقة على السلمى الذى يطلب للجيش -بموجبه- دورا موازيا للدولة.. وكانت الحقيقة المرة هى آخر ما خفى تحت الملابس.