كان يا ما كان، فى قديم الزمان، شأن وعزوة للفيلم القصير، يفاجئنا أحيانا بأفكار طموح، ويتألق بمفردات لغة سينمائية فريدة، ودائما فى تحد أمام أفق عريض فى حيز ضيق مسموح به، فيختصر طرق السرد، للوصول إلى الغرض دون مط أو تفرع، فالفيلم القصير لم يخجل أبدا من حجمه، ويعترف دائما بحدوده، ويتباهى بحلوله، وحين يتفوق يظل راسخا فى عقول متلقيه. كان للفيلم القصير جمهور عريض يتمتع بالدقيقة مثل الخمس أو العشرين، فالفيلم القصير يغير جلده كلما شاء من مجرد مقولة مختزلة، لتسجيل واقع أو تعليق على حدث، وأحيانا البحث عن حقيقة أو فى أسوء الحالات مجرد تلبية لسياسة إعلامية. وحين يقرر أن يغازل التركيبة الدرامية فى ما يلقب بالفيلم الروائى القصير، فمن الممكن أن يكون أكثر حداثة وعمقا من أى فيلم روائى طويل. اليوم مع الإنترنت وال«يوتيوب» والمهرجانات المرحبة والمشجعة وبفضل الديجتال العظيم عادت الروح إلى الفيلم القصير، مستقلا كان أم لا، فقد فتحت الأبواب لكل من السينمائى والهاوى معا، لا يفرق بينهم سوى الموهبة التى تفرض نفسها على الشريط كشاهد إثبات. عودة انتعاش الفيلم القصير دليل على حاجة الفيلم الروائى الطويل إلى التطور فى السرد أمام مفردات لغة سينمائية أكثر ثراء بتكنولوجيا العصر. فجمهور اليوم، خصوصا من الشباب، نشأ وترعرع أمام شاشة التليفزيون، وعالم رقمى أصبح تحصيل حاصل فى حياته، وصدق من قال إنه جيل «بيفهمها وهى طايرة» وما تتلقاه عيناه، سواء على شاشة التليفزيون أو السينما أو الكمبيوتر لفيلم قصير كان أو طويلا أو حتى إعلان الثلاثين ثانية أو الدقيقة، فقد تعود أن يتابع اللقطات السريعة ويستوعبها بتلقائية وسهولة مطلقة. فرِتم الحياة ذاته تغيَّر، وما تراه العين فى أقل من الثانية يترجمه الذهن بنفس السرعة، والفيلم القصير أصبح حقل تجارب للسينما السائدة. فمثلا مفهوم التأمل على الشاشة لم يعد بالضرورة مقتصرا على بطء اللقطة وطولها، فمن الممكن أن يتم التعبير عنه بمجموعة لقطات سريعة. وإذا كانت السينما السائدة استفادت من كل هذه التطورات، فآن أوان الدراما التليفزيونية أن تتعلم الدرس من الفيلم القصير، لتطور لغتها وتواكب تيمبو الزمن الذى نعيشه، فكم من تلميذ تعلم من أستاذه وكم من أستاذ تعلم من تلميذه.