فى ختام إحدى الندوات العامة استوقفتنى إحدى الحاضرات وقالت لى بلهجة أقرب إلى العتاب: لماذا استخدمت فى بحثك تعبير «الثورة المضادة»؟ هل يمكن أن نصف أفعال البلطجية واللصوص والفاسدين بأنها ثورة، حتى لو كانت مضادة؟ أجبتها بأننى أستخدم التسمية لأنها شائعة الاستخدام فى الدلالة على المحاولات التى تقوم بها القوى التى فقدت السلطة نتيجة عمل شعبى ثورى، لاستعادة السلطة مرة أخرى. فردَّتْ بأن شيوع التسمية لا يبرر استخدامها، وأن كل ما تهتم به هو أن لا يتم تلويث المعنى النبيل الذى تحمله كلمة «الثورة». كان نقد السائلة وجيها. وذلك على الرغم من أن كلمة «الثورة» لم تحمل دائما هذا المعنى النبيل الذى أشارت إليه، وأنها ربما كانت من أكثر الكلمات التى تم التلاعب بها لإضفاء الشرعية على انقلابات عسكرية، رسخت عصرا كاملا من الديكتاتورية والاستبداد فى معظم الأقطار العربية. فطول العبث بكلمة الثورة، واستخدامها شماعة لتبرير المجازر، ووأد المعارضة السياسية، والترسيخ لمبدأ الحكم مدى الحياة «لحماية الثورة»، و«استكمال أهداف الثورة»، كل هذا لم يستطع القضاء على بريق الكلمة، ولا النيل من تأثيرها السحرى فى الأذهان والنفوس. لقد أضافت ثورة 25 يناير إلى الرصيد الإيجابى لكلمة «الثورة» فى قلوب المصريين، لأنها مثلت مفتاح الخلاص لكل من عانى من ويلات نظام مبارك المستبد الذى أهدر عزة المصريين داخل وطنهم، ففقدوا كرامتهم خارجه. وكان التغنى بالثورة ورموزها أشبه بنشيد جماعى فى محبة الحياة. وأصبحت تعبيرات مثل «الثوار» و«شهداء الثورة» تستدعى شعورا مركبا من الإعجاب والرهبة والفرح. غير أن الأمانة تقتضى القول إن كلمة «الثورة» لم تلازمها مثل هذه المشاعر الإيجابية لدى جميع المصريين. من المبالغة القول إن المصريين كانوا جميعا مؤيدين للثورة حتى بعد نجاحها فى إسقاط رموز النظام المستبد. فهذا النظام نجح فى أن يستقطب شريحة كبيرة من ضعاف النفوس والفاسدين وذوى المصلحة الذين ربطوا أنفسهم به على نحو كامل، وتضرروا بشكل مباشر من الثورة، إما فى أموالهم وثرواتهم ودخولهم، وإما فى مكانتهم الاجتماعية ووظائفهم السياسية، أو فيها جميعا. ومن الطبيعى أن تستدعى كلمة الثورة بالنسبة لهؤلاء معانى أخرى تربطها بالخراب والهدم. تقتضى الأمانة أيضا القول إن استدعاء هذه المعانى لكلمة الثورة لم يعد يقتصر مؤخرا على شريحة المستفيدين من النظام المستبد الذى أسقطته، بل تجاوز ذلك إلى مجموعات أخرى من المصريين، عايشت المعانى الإيجابية للثورة فى لحظة انتصارها المبدئى بإعلان التنحى، لكنها توشك أن تتخلى عنها بعد أن ظهر أن التضحيات اللازمة لانتصارها النهائى بإسقاط النظام المستبد بأكمله وتأسيس نظام ديمقراطى جديد أكبر من مجرد التأييد اللفظى لها، أو ترديد الأغانى فى محبتها. وهكذا نتيجة للخسائر الاقتصادية الشخصية التى عانى منها بعض المصريين، أصبحت تختلط لديهم الدلالات الإيجابية العامة لكلمة الثورة، بدلالات سلبية. وكان تباطؤ حكومة الثورة فى تعويض هؤلاء المتضررين عن خسائرهم، سببا إضافيا لتعميق هذه الدلالات السلبية فى نفوسهم. كذلك كان لخطاب الإرهاب الاقتصادى الذى روجته بعض الدوائر الحكومية ولوحت فيه بأن مصر على شفا الإفلاس، أو أن الاقتصاد المصرى على وشك الانهيار أثر بالغ فى ربط كلمة الثورة بمشاعر مثل غياب الأمن والخوف من المستقبل. وهى مشاعر تزداد سلبية بسبب الربط الخبيث بين الثورة وبعض السلوكيات الاجتماعية السلبية، مثل انتشار ظاهرة التعدى على الموظفين الحكوميين. إضافة إلى كل ذلك كان هناك سبب آخر لتغير دلالة كلمة الثورة فى نفوس بعض المصريين لا يقل خطورة ولا تأثيرا، هو غياب الوعى بطبيعة الثورات الاجتماعية والسياسية لدى الغالبية العظمى من المصريين. فالثورة تغيير جذرى، يتم فيه هدم بناء قائم ليحل محله بناء جديد. ومن الطبيعى أن عملية الهدم تحتاج إلى الكثير من الجهد والمخاطرة والتضحية، كما أن عملية البناء تحتاج إلى الكثير والكثير من العزم والعرق والتضحيات. ومن يطمع فى أن يجنى ثمار الثورة بين عشية وضحاها، لا يمكن إلا أن يكون واهما، أو متفائلا إلى حد السذاجة. فما تم من الثورة لا يعدو أن يكون هدم جزء من البناء القديم، وربما لا نزال فى مرحلة التخلص من الأنقاض. لقد غسلت أحداث 25 يناير الشوائب التى علقت بكلمة الثورة على مدار ما يزيد على نصف قرن من حكم العسكر الاستبدادى. وعادت لنا الكلمة نقية من كل تلاعب وتزييف، لتكون عنوانا لإرادة المصريين فى أن يحيوا عيشة حرة كريمة عادلة، ولاستعدادهم لدفع ثمن هذه الحياة من تضحيات. وليس علينا الآن سوى أن نحافظ على هذه المعانى الثمينة للكلمة، بأن نعمل جاهدين على تحقيق أهداف الثورة كاملة، فنحن فى الحقيقة من نصنع معنى الكلمات. باحث أكاديمى بجامعتى القاهرة ولانكستر الإنجليزية