إذا ارتبطت كلمة الكرسى بالله تعالى كان معناها العرش «الرحمن على العرش استوى»، «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الْسَّمَوَاتِ وَالأَرْض» صدق الله العظيم. وإذا ارتبطت بالرؤساء ورؤساء الوزراء فى العالم كان معناها الحكم. وإذا ارتبطت بالرؤساء فى العالم العربى كان معناها التحكم. وإذا ارتبطت بأستاذ الجامعة كان معناها كرسى العلم، إذ يطلق أستاذ كرسى على مدرس الجامعة الذى يصل لمكانة علمية متفردة. هل يمكن للمنبر فى الجامع يوم الجمعة أن يتحول إلى كرسى بأى معنى من المعانى سالفة الذكر؟ الإجابة لا. ففى الحالة الأولى الجامع هو بيت الله ولا يمكن أن يحكم فيه أحد إلا الله. والأذان الذى يؤذن للصلاة يقرر أنه لا إله إلا الله. وفى القرآن الكريم «إن الحكم إلا لله» صدق الله العظيم. وفى الحالة الثانية لا يمكن أن يتحول المنبر إلى كرسى حكم، لأن الواقف عليه لم ينتخب من عموم الناس رئيسا للبلاد. وفى الحالة الثالثة لا يمكن أن يكون الواقف على المنبر أستاذ كرسى لأن هذا يحتاج إلى درجات علمية متخصصة وكافية لهذه المكانة، وهذا اللقب حتى تصير أستاذا جامعيا. هنا تبقى حالة واحدة وهى الخاصة بالعالم العربى وهى أن يرتبط الكرسى بالتحكم. ولنتعمق معا فى فكرة الجامع التى أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام. فقبل الإسلام عرفنا أسماء دور العبادة بألوانها وأشكالها التى هى عليها الآن إلا الجامع، فقد عرفنا قبل الإسلام (الهيكل والمعبد والكنيسة والدير والصومعة) وكلها أماكن للصلاة والتقرب إلى الله ولنشر التعاليم الدينية. ولكن فكرة الجامع لم تأت إلا مع الإسلام وجاء الجامع ليكون التطبيق العملى لنظرية الإسلام فى الحكم، وهو أن الحكم لله وحده والإدارة فيه للأغلبية «وأمرهم شورى بينهم». والاجتماع الأسبوعى يوم الجمعة لم يكن فقط للصلاة ولكنه بالأساس اجتماع لمناقشة أمور المسلمين. كل مسلم حاضر بنفسه عن نفسه. لكل إنسان الحق فى طرح الأسئلة ولمناقشة أى أمر يتعلق بحياة الناس ومصير الأبناء من الجيل الجديد. وهكذا تقف الأمة وقفة أسبوعية تحدد فيها خريطة العمل القادمة ومحاسبة ما فات حتى لا تتكرر الأخطاء. وهنا تظل الأمة متيقظة عاملة مسؤولة متحدة تأمل فى التقدم. وهذا التقدم حدث دائما عندما كانت الفكرة الأساسية للجامع حاضرة. وغاب هذا التقدم عندما غابت وظيفة الجامع الأساسية فى عقولنا، وبالتالى فى سلوكنا. وهى أن الإدارة للأغلبية. إذن ما دور الشخص الواقف على المنبر؟ هو شخص اخترناه واتفقنا عليه جميعا داخل الجامع كى يدير وينظم هذا الحوار بيننا حتى لا تصير المناقشات غوغائية كأنه يسجل ما يحدث فى الجلسة مثل ما تم اتخاذه من قرارات وما تم إلغاؤه والتذكير فى الجمعة المقبلة بما حدث فى الجمعة السابقة وكأنه منسق أعمال الأمة فى هذا الجامع الواقع فى كل حى من أحيائنا. وبهذا يكون الجامع حيا دائما، محققا لنداء حى على الفلاح. هل هذا ما يقوم به خطباء الجوامع الآن؟ هل يتحينون الفرصة للناس كى يتحدثوا؟ هل يسمحون لهم بمناقشة أمور حياتهم وحياة أبنائهم؟ أم أننا داخل الجامع يوم الجمعة عشنا لسنوات طويلة جدا حالة كلام فردية تقابلها حالة استماع جماعية. نسمع دائما نفس القصص عن عظمة أبى بكر دون أن يكون بيننا فى الجامع المواطن الذى قال لأبى بكر «ولله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا»، ونسمع فى الجامع عن عدل عمر دون أن نجد المواطن الذى حاسب عمر على متر قماش من أموال الصدقة. نحن لا نريد فقط أن نسمع قصصا متكررة عن عدل هؤلاء العظماء، بل نريد أيضا أن نقيم هذا العدل فى هذه اللحظة الحاضرة فى المكان الحاضر الذى نعيش فيه. منبر الجامع فى صورته الحالية عبارة عن متحدث واحد وجماعة من الصامتين. يرسل هو وهم يستقبلون. ثم يأتى يوم الجمعة من كل أسبوع بنفس الخطيب ونفس الناس ونفس القصص وكل متمسك بموقعه السابق، الذى كان لاحقا دائما. الفرد يتحدث والجماعة صامتة. دون أن تتاح للأغلبية الفرصة لمناقشة أى مشكلة من مشكلات الحى الذى يسكن فيه الأحياء. فهل تحول المنبر فى الجامع إلى كرسى من كراسى التحكم فى عالمنا العربى؟! لا أريد الإجابة ولكن أعرف أنه لا يصح. بمعنى غير صحى أن يتحول الحوار فى الجامع إلى مجرد مرسل ومستقبلين. ولنرى ما يحدث للأمة العربية مؤخرا. إن هذه الثورات العظيمة نجحت كنتيجة حتمية عندما انتبهت الأمة العربية أخيرا للمعنى الحقيقى للجامع والهدف الحقيقى لاجتماع يوم الجمعة من كل أسبوع. وتجلت قدرة الأمة العربية وانتصرت على الحكم الجائر الظالم بعد أن كانت أمة مهانة ذليلة لا صوت لها. لنتمسك بالفكرة الأساسية التى من أجلها أتى الإسلام بالجامع وجعل الإدارة فيه بالأغلبية وهذه هى عبقرية اللقاء يوم الجمعة وتأكيد أن يد الله مع الجماعة. لنتمسك كل أسبوع بمناقشة أمور الحى الذى يسكنه الأحياء ولنرفض أن يتحول المنبر إلى كرسى حكم يتحدث منه فرد واحد يستمع إليه أموات، وكما قال نجيب سرور: الصمت ليس هنيهة قبل الكلام الصمت ليس هنيهة بين الكلام الصمت ليس هنيهة بعد الكلام الصمت حرف لا يخط ولا يقال الصمت موت أو ليس الموت صمتا. دامت وعاشت الأمة العربية هادرة ثائرة متحررة قاهرة لصمتها إلى الأبد.