ارتبطت ثورات الربيع العربي بيوم الجمعة، بحيث ترددت تعبيرات «جمعة الغضب»، و«جمعة الصمود» و«جمعة التحدي»، و«جمعة الحماية الدولية»، وجمعة «النصر لشامنا ويمننا» وجمعة «نصر من الله وفتح قريب» إلى غير ذلك من المسميات. وربما يرجع ذلك إلى الزخم الهائل والحشد الكبير الذي تشهده أيام الجمعة، وذلك باعتباره يوم عطلة رسمية في كل الدول العربية وبالنظر إلى أنه يوم اجتماع المسلمين لأداء صلاة الجمعة. ففي ظل الأنظمة الاستبدادية العربية، يبدو متعذرا تنظيم مظاهرة قانونية بتصريح من وزارة الداخلية. وفي ظل حالة الطوارئ المعلنة – بشكل رسمي أو غير رسمي – في غالبية الدول العربية، يبدو مستحيلا الدعوة إلى عقد اجتماع لمناقشة قضية سياسية معينة. وربما تبدو الفرصة الوحيدة للاجتماع هي صلاة الجمعة. فالمساجد – ولاسيما يوم الجمعة – هي المكان العام الوحيد المتاح للتجمع، دون التعرض للمراقبة والمضايقات الأمنية. ومع ذلك، وخروجا على القاعدة آنفة الذكر، ارتبطت الدعوات للتظاهر في جمهورية الجزائر بيوم السبت. وربما يرجع ذلك إلى وقوف تيارات سياسية غير منتمية للتيار الديني وراء هذه التظاهرات. وربما يعود أيضا إلى التجربة المريرة التي شهدتها الجزائر في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، والتي شهدت صداما مريرا بين جهة الإنقاذ الإسلامية والسلطات الحاكمة، وذلك على إثر إلغاء المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية التي فازت بها جبهة الإنقاذ. ومن ثم، ارتأى الداعون للمظاهرات في الجزائر الابتعاد عن تنظيم المظاهرات يوم الجمعة بما له من دلالة دينية، وذلك تأكيدا على الرغبة في الابتعاد عن إضفاء أدنى مسحة دينية على المظاهرات، ومحاولة الربط بينها وبين قيم «الحرية والعدالة والمساواة» باعتبارها قيم إنسانية جامعة. والواقع أنه فيما يتعلق بالارتباط بين ثورات الربيع العربي وبين يوم الجمعة، عبر البعض عن خشيتهم من خروج المظاهرات من المساجد، مما يهدد مدنية الدولة وتعددية المجتمع برأيهم. ولعل أبرز هؤلاء هما الشاعر السوري «علي أحمد سعيد إسبر» المعروف باسم «أدونيس»، والمفكر السوري أيضا «فراس السواح». على العكس من ذلك، لم ير الكثير من العلمانيين غضاضة في ذلك. بل أن الأقباط في مصر قاموا بحراسة إخوانهم المسلمين أثناء المظاهرات. وكثيرا ما رأينا الهلال بجوار الصليب في ميدان التحرير. كذلك، كان لافتا للنظر وقوف الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأوربية في صف ثورات الربيع العربي. ووصل الحال إلى حد التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا، وذلك على الرغم من أن الديانة السائدة في الدول الغربية هي المسيحية، وعلى الرغم من مناخ الريبة والشك الذي يغلب على سياسة هذه الدول تجاه الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية. وربما تكون تجربة حزب «الحرية والعدالة» الحاكم في تركيا قد ساهمت – بعض الشيء – بتغيير الصورة النمطية في الدول الغربية تجاه الأحزاب الإسلامية بحيث وجدت فيها بديلا أفضل للأنظمة القمعية الاستبدادية. فإذا لم يتسن لهذه الدول الوصول إلى نظام مدني علماني ديمقراطي لنظام الحكم، فإن الأحزاب الإسلامية على نمط حزب «الحرية والعدالة» التركي يمكن أن يكون بديلا مقبولا من جانب الغرب المسيحي، طالما أن هذه الأحزاب لا تميل إلى سياسة الصدام معه. من ناحية أخرى، برزت أسماء بعض الميادين أثناء ثورات الربيع العربي، بحيث ارتبطت كل ثورة بميدان معين. ففي القاهرة، ارتبطت الثورة المصرية أو ثورة الخامس والعشرين من يناير بميدان التحرير، والذي حرصت المعارضة المصرية على التمسك بالتواجد فيه والاحتشاد به اعتبارا من يوم جمعة الغضب (28 يناير 2011) وحتى تنحي الرئيس السابق «حسني مبارك» في يوم الجمعة الموافق الحادي عشر من فبراير 2011م. بل أن المظاهرات المليونية التي تمت الدعوة إليها بعد هذا التاريخ كانت تتم دائما في ميدان التحرير دون سواه. وفي تونس، ارتبطت الثورة التونسية بمنطقة «سيدي بو زيد»، والتي شهدت انطلاق الشرارة الأولى للثورة في يوم السابع عشر من ديسمبر 2010م، حيث قام الشاب التونسي «محمد البوعزيزي» بإشعال النار في نفسه احتجاجا على قيام الشرطة بمصادرة عربته التي كان يعمل عليها كبائع متجول. وفي ليبيا، ارتبطت ثورة السابع عشر من فبراير بمدينة «بنغازي»، التي شهدت انطلاق الثورة. ومع ذلك، وبما له من دلالة رمزية، برز اسم «ميدان الساحة الخضراء» سابقا أو «ميدان الشهداء» حاليا. حيث نظر الثوار إلى السيطرة على هذا الميدان ومن بعده «باب العزيزية» باعتبارهما علامة النصر والخطوة الفاصلة في تأكيد نجاح الثورة الليبية. وفي اليمن، برزت أسماء «ساحة الستين» كمركز أو مقر رئيسي للمظاهرات المعارضة لنظام الحكم، بينما برزت «ساحة السبعين» كمركز للتجمعات المؤيدة لعلي عبد الله صالح. أما الثورة السورية، فيمكن ربطها بمدينة «درعا»، في جنوب البلاد والتي شهدت انطلاق الثورة السورية، ثم امتدت شرارتها إلى سائر المدن والقرى السورية. وإذا كانت الثورة في مصر واليمن قد بدأت في العاصمة ذاتها، فإن الثورتين التونسية والليبية قد ارتبطتا بإحدى مدن الأقاليم. فكما سبق أن قلنا، ارتبطت الثورة التونسية بمدينة «سيدي بو زيد» بينما ارتبطت الثورة الليبية بمدينة «بنغازي». أما الثورة السورية، فيمكن وصفها بثورة التخوم، حيث تمركزت بشكل أساسي في المدن الحدودية، مثل «درعا» على الحدود السورية الفلسطينية و«البوكمال» على الحدود السورية العراقية و«القامشلي» على الحدود السورية التركية وفي «تل كلخ» القريبة من الحدود مع شمال لبنان. كذلك، اتسمت الثورة السورية بالمسيرات وعدم التمركز في ميدان واحد أو في مكان واحد، وذلك على خلاف الثورة المصرية التي اتخذت من ميدان التحرير مركزا رئيسيا لها. ومن ناحية ثالثة، وإذا كانت ساعات النهار هي الوقت الغالب لحدوث المظاهرات، فإن الثورة السورية قد اشتهرت بالمظاهرات والمسيرات الليلية. وربما يرجع ذلك إلى الرغبة في التخفي والبعد عن المراقبة الأمنية الصارمة. ومن ناحية رابعة، تميزت الثورات في مصر وتونس واليمن برفع العلم الوطني للدولة، دون أدنى محاولة لتغييره أو إدخال أدنى تغيير عليه. خلافا لذلك، لجأ الثوار الليبيون منذ بداية ثورتهم إلى اعتماد علم الاستقلال ذو الألوان الأحمر والأخضر والأسود، بدلا من علم نظام القذافي ذو اللون الأخضر الخالص. وإذا كانت الثورة السورية قد بدأت برفع العلم السوري الرسمي ذو الألوان الأحمر والأبيض والأسود والذي يوجد في وسطه نجمتان، فقد لجأ الثوار – بعد نجاح الثورة الليبية – إلى إجراء نوع من التغيير في العلم، تمثل في استبدال اللون الأخضر باللون الأحمر. وربما يشكل ذلك نوعا من التفاؤل بنجاح الثورة الليبية وتيمنا بها. بالإضافة إلى ما سبق، يلاحظ أيضا حرص الثورات في غالبية الدول العربية على سلمية الثورة. وبعد أن كانت الصورة الراسخة للمظاهرات في عالمنا العربي هي جنوح المظاهرات غالبا إلى الرغبة في تدمير المنشآت العامة وحرق الأتوبيسات، خرجت ثورات الربيع العربي بصورة مغايرة حريصة دائما على عدم الخروج على الطابع السلمي، وذلك على الرغم من المعاملة الأمنية العنيفة واستخدام آلة القمع والقتل وسفك الدماء ضد المتظاهرين. وإذا كانت الثورة الليبية قد انتهت بالحسم العسكري، فإن التحول الحادث في مسيرة الثورة راجع أساسا إلى تعامل نظام القذافي مع المظاهرات بأسلوب الحل العسكري ومحاولة حسم الأمور من خلال آلة الحرب العسكرية. بل أن الثورات العربية لم تكتف بالحرص على الطابع السلمي لها، وإنما شهدنا كذلك ظهور بعض أنواع الفنون والطرب في المظاهرات. وهكذا، ظهر إلى العلن اسم «حمزة نمرة» الذي يمكن اعتباره مطرب الثورة المصرية. وفي سوريا، ارتبطت الثورة بأسماء «إبراهيم قاشوش» و«سميح شقير». وإذا كانت هذه الأسماء قد ذاع صيتها بمناسبة الثورة، فإن الغالبية العظمى من نجوم الصف الأول في الفن والرياضة قد اختاروا طريق السلطة والنظام، ووصل الحد ببعضهم إلى حد انتقاد المظاهرات والتهكم على الثوار. وفي هذا الإطار، لا يفوتنا الإشارة إلى المظاهرة المؤيدة لنظام الرئيس السابق «حسني مبارك»، والتي قام بها نجوم المنتخب المصري الأول بقيادة المعلم «حسن شحاتة» في ميدان «مصطفى محمود». وفي سوريا، وصل الحال بسلطان الطرب «جورج وسوف» إلى حد الركوع أمام «رامي مخلوف» رجل الأعمال الشهير وابن خال الرئيس السوري. ولعل ذلك يثير الكثير من التساؤلات عن صناعة النجم في الأنظمة الاستبدادية، وما إذا كان الصعود المفاجئ للكثير من النجوم مرهونا برغبة ودعم حكومي أم لا !!! بل أن هذه التساؤلات يمكن أن تثور أيضا حول الصعود المفاجئ والهائل لبعض نجوم الدعوة الدينية، واحتلالهم لشاشات التليفزيون واحتكارهم للبرامج الدينية التليفزيونية والإذاعية. وبعد عصور طويلة من الحديث المتكرر عن موات الجماهير العربية، وابتعادها عن العمل السياسي والمظاهرات، نزعت الشعوب العربية رداء الخوف والجبن عنها. وهكذا، رأينا الشباب بصدورهم العارية أمام الترسانة الأمنية لنظم الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، فلم ترهبهم آلة القمع والقتل والتنكيل والتعذيب. كذلك، نزعت الشعوب العربية عن نفسها رداء الجبن، وبعد أن كان الأب العربي يحرص على إبعاد ابنه عن المظاهرات، ها هو يصطحب أولاده معه إلى الميادين والساحات. فلا يمكن أن ننسى أحد المشاهد المميزة للثورة المصرية، عندما أعطى أحد الآباء ابنه للجندي الواقف على دبابته في ميدان التحرير. كذلك، اشتهر الثورة السورية بأسماء بعض الأطفال، مثل «حمزة الخطيب». كذلك، وبالتمعن والتدقيق في المراحل التي مرت بها الثورات العربية، يمكن أن نلحظ اختفاء الشعارات الدينية أثناء المظاهرات التي خرجت في بداية الثورة. فقد كان الحرص بالغا على توحيد الصفوف في مواجهة النظام الحاكم. وكان الحرص بالغا من الجماعات السياسية ذات التوجهات الإسلامية على الانصهار في المجتمع وعدم بث روح الفرقة. وهكذا، ظهرت المقولة الشهيرة لمرشد الإخوان المسلمين في مصر، والتي يقول فيها «إن الإخوان المسلمون جزء من نسيج الشعب المصري لا يتخلف عنه ولا يتقدم عليه». كذلك، حرصت الثورات العربية على تأكيد الوحدة الوطنية، وإبراز الطابع الجامع للثورات. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نشير إلى إطلاق المتظاهرين السوريين تعبير «جمعة آزادي» على المظاهرات التي انطلقت في يوم الجمعة الموافق 20 مايو 2011م. وكلمة «آزادي» هي إحدى مفردات اللغة الكردية، ومعناها «الحرية». والرغبة من وراء ذلك هي إظهار التضامن بين العرب والأكراد في سوريا. ولكن، وبمجرد نجاح الثورات في تحقيق الهدف الأول لها، متمثلا في إسقاط رأس النظام، بدأت تظهر الخلافات بين التيارات السياسية ذات التوجهات الدينية وبين التيارات السياسية العلمانية أو المدنية على وجه العموم. وهكذا، ومع بدء الاستعداد للاستفتاء الدستوري الحاصل في مصر يوم 19 مارس 2011م، بدأنا نسمع عن تعبيرات مثل «غزوة الصناديق» و«التصويت بنعم واجب شرعي» و«مصر إسلامية». كما بدأ الإخوان المسلمون يرددون مقولة «لولا الإخوان ما كانت الثورة». اكتسى ميدان التحرير بالشعارات الدينية وامتلأ عن آخره بالإسلاميين، وذلك في مظاهرات يوم الجمعة الموافق 29 يوليو 2011م، والتي غلب عليها سيطرة التيار الإسلامي. ورغم أن هذا اليوم قد أريد له أن يكون «جمعة توحيد الصف والإرادة الشعبية»، إلا أنه انتهي إلى حالة خلاف وانشقاق واضح بين التيارات الدينية وغيرها من التيارات السياسية، على خلفية قيام الإخوان المسلمون والتيارات السلفية برفع شعارات دينية. بل أن أحد الأحزاب الدينية في مصر، وهو حزب «النور» السلفي قد دعا إلى تغيير اسم الدولة المصرية، بإضافة وصف «الإسلامية» إليها. وفي أثناء الثورات، وفي الفترة السابقة على إسقاط النظام، كثيرا ما رأينا اللافتات المكتوبة باللغات الأجنبية. وربما يرجع ذلك إلى الرغبة في توصيل رسالة إلى المجتمع الدولي، وجذب اهتمام الشعوب الأجنبية إلى ما يحدث في شوارع تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. وهكذا، رأينا جميع الكثير من اللافتات المكتوبة باللغة الإنجليزية، مثل (Go out) ومعناها «ارحل» و(Stop killing) وترجمتها هي «أوقفوا القتل». وفي تونس، على وجه الخصوص، ظهرت اللافتات المكتوبة باللغة الفرنسية، ولعل أشهرها تلك التي كان مكتوبا عليها (Ben Ali dégage)، وترجمتها «ارحل يا بن علي». ولكن، وبمجرد أن نجحت الثورات في إزاحة رأس النظام، بدأت تختفي هذه الظاهرة شيئا فشيئا، بحيث ساد استعمال اللغة العربية – دون سواها – في الشعارات واللافتات الثورية.