أعيش هذه الأيام ذكرى صديق عزيز (رحمه الله) رغم طيبة قلبه وسلوكه الذى يقطر رقة وتهذيبا، كان فى السياسة شديد الحدة والتطرف، لدرجة أننا معشر أصدقائه ورفاقه فى التنظيم السرى الشبابى الذى أسسناه ونحن طلبة فى الجامعة كلما دعوناه للمشاركة فى مظاهرة سلمية أو توزيع منشور ضد نظام الحكم، استخف بنا وبوسائلنا النضالية العبيطة وطالبنا بأن نحمل السلاح فورا وننخرط توا فى حرب عصابات ثورية طويلة الأمد وحامية الوطيس لا تنتهى إلا بدحر النظام وإسقاط حكم اللصوص الخونة وإعلان مصر جمهورية عربية ثورية ذات سيادة. وأعترف الآن بأننى كثيرا ما كنت أستغل طيبة صديقى هذا، وأسمح لنفسى بالتجاوز معه وتجاهل حقيقة أنه يكبرنى ببضع سنوات ويتبوأ وضعا ومنصبا أرقى وأعلى منى فى تنظيمنا السرى، فأعلق مداعبا على فكرة الحرب الثورية التى يحرضنا على خوضها، بأن المشكلة الوحيدة التى تمنع تنفيذ اقتراحه حالا، ليس أننا لا نستطيع شراء أسلحة حربية بالقروش والجنيهات القليلة التى ندفعها من مصروفنا لتمويل نشاط التنظيم، وإنما مشكلة المشكلات حقا أن المولى تعالى فاطر الأرض والسماء لم يخلق مصر ولم يشكلها للأسف الشديد على طبيعة جغرافية صعبة ووعرة، وإنما حباها أرضا سهلة منبسطة فقيرة إلى مرتفعات وجبال تشبه «سييرا مايسترا» التى تحصن فيها فيدل كاسترو وجيفارا فى خمسينيات القرن الماضى ونزلا منها بقواتهما الثورية إلى العاصمة هافانا بعدما كانا أنهكا جيش الديكتاتور «باتيستا» وهزماه شر هزيمة.. لهذا يا صديقى كنت أتابع هاذرا يبدو أننا مضطرون إلى أن «نُقضيها» نضالا بالمظاهرات والمنشورات العبيطة تلك حتى «تسنن» مصر ويطلع لها فى الوادى نتوءًا وجبالا تصلح لخوض حرب عصابات ثورية ناجحة!! كان صديقى (رحمة الله عليه) يضحك ولا يغضب من تهريجى البائخ، ولكنه سرعان ما يعود إلى ارتداء سيماء الجد فيقطب ما بين حاجبيه ويرفع نبرة صوته قائلا: يا عزيزى هذه حجة البليد (يقصد الجبان) من قال إن نقص الجبال يمنع البدء فى الكفاح الثورى المسلح؟! ومع ذلك يا سيدى عندك «تلال المقطم» موجودة شامخة وهى لحسن الحظ متاخمة تماما لحدود القاهرة مثل جبال «سييرا مايسترا».. لكن «تلال المقطم» تستغل الآن (نهاية سبعينيات القرن الماضى) فى شؤون واستعمالات أخرى تجعلها بعيدة كل البعد عن الأجواء الحربية الثورية، هكذا كنت أرد على صديقى، فهل يرضيك أن نزعج «الحبيبة» المعششين على أرصفة كورنيش المقطم بطلقات بنادقنا ومدافعنا.. يا راجل حرام عليك إنت ماعندكش إخوات صغيرين؟! كان صديقى ينهى هذا الحوار الهزلى دائما بابتسامة مصحوبة بهزة رأس وإشارة من يده معناها أن العبد لله جاهل ومافيش فائدة.. غير أننى ذات يوم كلفت من التنظيم بمهمة ثورية فى المدينة الساحلية التى يسكن فيها مع أسرته، وبالطبع كان هو رفيقى فى المهمة، وعندما انتهينا وحل المساء رفض رفضا قاطعا أن أعود إلى القاهرة وأصر على أن أبيت الليلة فى بيته، وبعد مناهدة بغير طائل ذهبت معه مضطرا واستمتعت بعشاء رائع أعدته لنا والدته التى غمرتنى بعواطف حارة عرفت منها مصدر طبيعته العذبة الطيبة.. ثم حان أوان النوم فدخلنا حجرته، وما إن رميت بجسدى المنهك على سريره حتى وقع بصرى على رصة كتب مكومة على منضدة ملاصقة للسرير يرقد أعلاها كتاب «أرواح وأشباح»، فلما انتفضت ومددت يدى أرى باقى الرصة صعقت أنها تكاد تكون الأعمال الكاملة لأنيس منصور، ابتداء من «الذين هبطوا من السماء» إلى «الذين عادوا» إليها!! لاحظ صديقى ملامح الدهشة والصدمة المحفورة على صفحة وجهى فرمقنى بنظرة تستحثنى أن أفصح عما أذهلنى، فجاوبت السؤال الذى لم يقله وهتفت باستنكار: هل هذا ما تقرؤه؟! كنت أتوقع أن أجد مكتبتك زاخرة بكتب وأسفار من نوع «حرب العصابات» لتشى جيفارا، و«الحرب الثورية» و«الحرب الشعبية» للجنرالين أندريه بوفر وجياب، فضلا عن كتاب «دروس وتكتيكات حرب العصابات» لجيمس كولونى و..غيرها!! ابتسم الصديق الطيب وقال بكل هدوء: أنا لست محتاجا لكل هذه الكتب القيمة، أنا محتاج أريّح دماغى شوية بالليل.. هل تعرف أن الكومندان «روميرو» قائد ثوار حركة تحرير إقليم الباسك (شمال إسبانيا) يفعل مثلى ولا يقرأ قبل أن ينام إلا مجلات «ميكى» و«سمير»؟! كنت مصدوما وخجلانص فلم أرد ولم أقل إننى لا أعرف أصلا الكومندان «روميرو» ولا اللغة التى يقرأ بها هذا الرجل مجلة «سمير».. رحم الله صديقى وأنيس منصور.