.. لماذا الرقص حول جثة القذافى؟ لم يكن هذا سؤال الذين أوقفوننى مساء أمس ليسألوا: شفت اللى حصل فى القذافى؟ قلت لهم شفت وعرفت، لكنهم كانوا مرتبكين بين الفرح باصطياد الديكتاتور من سردابه، وبين الحزن على مغادرة نجم الطغاة العرب بهذه الطريقة المهينة التى لا تخلو من شراسة وانتقام صادم. لماذا رقصوا على الجثة؟ لماذا ضربوه بعد قتله؟ سأل الشاب وفى عينه حيرة كبيرة لخصها هو: أنا مع قتله لكننى لست مع الضرب بعد الموت. قلت له إننى لم أشاهد الضرب بعد الموت، ولا أحب القتل ولا العنف من أساسه، لكن كيف يمكن أن تتوقع من شعب عاش الذل والرعب 42 سنة؟ الانتقام فعل إنسانى، واصطياد طاغية مثل القذافى، لا بد أن يصيب الصائد والقاتل بهستيريا لا يمكن السيطرة عليها. الرقص حول الجثة مؤلم، ويعيدنا إلى عصور الوحشية البدائية، وهذه حقيقة لا بد من الاعتراف بها، الانتقام همجى، لكن الهمجية صناعة الديكتاتور بامتياز. القذافى تفنن فى صنع العجز، والإحباط، وها هو تجرع كأسا من فنه الصافى، تجرع مشاعر العاجزين عندما يصطادون الديكتاتور من سردابه. لا بد من اعتراف إذن: للطاغية عشاق ومريدون وعبيد لا يدركون عبوديتهم، لا أقصد المرتزقة الذين دافعوا عنه بأموال الشعب الليبى، ولا الصحفيين والإعلاميين الذين عاشوا فى خير القذافى وأقاموا حفلات الندب على موته.. لا أقصد أرامل القذافى فى الإعلام والسياسة، ولكننى أقصد هؤلاء الذين عاشوا تحت حكم الطغاة سنوات طويلة، تكسرت فيها أرواحهم بل تشوهت إلى درجة تبرر فيها للديكتاتور قتل عشرات الآلاف ونشر الذعر العمومى وتحويل الفساد إلى واقع يومى، لكنها لا تبرر لحظة انتقام. هل هناك من حزن على القذافى؟ القذافى تراجيديا ستدخل التاريخ، لأنه لا يمكن نسيان وجهه المفزوع بعد اصطياده من السرداب، وجه ابيضّ تقريبا من الخوف تلطخه دماء، كأنه مهرج فى لحظة وداعه المسرح، متشبث بما لم يعد فى يده التشبث به. هل كان القذافى يدافع عن عرش ملك الملوك؟ هل كان يشعر بأنه محارب ضد تحالف عالمى لم يكن هناك حل غيره للتخلص منه؟ هو الذى صحر بلاده كما فعل كل ديكتاتور، وزرع جذوره وحده فى أرض بلد كان من الممكن أن يكون غنيا ومرفها، لكنه عاش مجرورا خلف مغامرات ديكتاتور كان يظن البقاء على مقعده سرمديا. الرقة هنا فى التعامل مع المشهد الأخير للقذافى، مدهشة، وتثير الرثاء.. كيف تحملتم مشاهد الديكتاتور الأولى لتخرج رقتكم فجأة فى مشهده الأخير؟ هل هو تقديس للطاغية؟ ربما. لأن الرجل الذى مصمص شفتيه حزنا على القذافى، توقف فجأة عن سخطه عندما سألته: وما رأيك فى كل الذعر الذى نشره والقتل الذى كان من نصيب شعب كان كل فرد فيه يتلفت خلفه ويخاف من ظله؟ توقف عن السخط كأن وعيه أسعفه برسالة: بس كده يعنى موش هايبقى فيه زعماء عرب..؟ لم أجد ما أفعله سوى الضحك عاليا.. إنها ثقافة الخوف من الحاكم، خوف مغلف بالتقديس، لا احترام ولا محبة، خوف كبير من الحياة دون كبير، حتى لو كان قاسيا لا يفهم، ومن ليس له كبير يشترى له كبيرا، لأن الحياة بالنسبة إلى هؤلاء لا يمكن الحياة فيها معتمدا على ذاته، أو وفق قيم شخصية، لا بد من كبير تحترمه، وإن لم تحترمه فعليك تبجيله، ولو قادك إلى جهنم.. هذه ثقافة لا تحترم الكبير، لكنها تحتقر الفرد وتجعله دائما فى قطيع، لأن احترام الكبير لا يبدو فقط فى الطاعة، لكن فى تفاصيل الحياة كلها، لماذا لا تحترم كبيرا دون سلطة؟ لماذا لم يحزن الرجل على تعذيب ثوار سوريا ونزع حنجرتهم وبينهم كبار فى السن؟! الديكتاتور صنع قطيعا وها هو يلتهمه. التهام ربما يكون أول الطريق إلى التخلص من الديكتاتور الساكن فى الأرواح والتحرر من القطيع، وإما سيكون بابا تحكم فيه الهمجية والوحشية باعتبارها باب النصر على الديكتاتور.