امتلأت الصحف والمجلات بقصص بطولات حرب أكتوبر (الجديدة) و(المجهولة) و(المخفية)، فى نغمة تلميح كثير وتصريح قليل بأن هذه الأسماء وتلك البطولات كانت مُتجاهَلة عمدا. برامج التوك شو كانت أجرأ قليلا، فلم تستخدم البناء للمجهول فى فعل التجاهل، بل قالت إن النظام المنخلع كان وراء التعمية والتعتيم لصالح تلميع دور سلاح الجو فى تلك الحرب العظيمة. الفيسبوك وشبكات النت، وهى مما لا يمكن تجاهله بعد الآن، وصلت بالجرأة والصراحة إلى مداها، وسخرت كثيرا وأنكرت أحيانا أى شىء اسمه الضربة الجوية الأولى! لكن العنصر المشترك بين تداولات الوسائط المختلفة وتناولاتها أول سادس من أكتوبر بلا مبارك، هو أن هناك (بطلا) حقيقيا تقدمه لنا وتعيد إليه اعتباره. كثير من هذه التناولات ذهب إلى أن الفريق سعد الشاذلى هو بطل هذه الحرب المهضوم حقه. آخرون استعادوا صور وذكريات السادات كبطل (للحرب) والسلام، بعد أن توارت الأولى وتركوا له الثانية منذ وفاته. ومن واحد يشيد بمحمود فوزى الذى أعاد بناء القوات بعد الهزيمة، إلى آخر يشير إلى المشير إسماعيل، والجمسى، وأبو غزالة. أسوت قليلا لحالنا الفكرى الذى ينزع بطبعه إلى الاستقطاب الحاد اللا معقلن. هل يمكن لعاقل أن ينكر كل دور لسلاح الجو فى أى حرب حديثة؟ هل ذنب قواتنا الجوية أن مبارك قادها فى مرحلة حساسة من تاريخنا المعاصر؟ هل نتلذذ بإدخال قواتنا الجوية القفص مع الرجل الذى اختصر مجدها لحسابه وكأننا نعاقبها مرتين؟! انتبهت فجأة وسط هذه الأفكار إلى ما اعتبرته رسالة ضلت طريقها خلال اليومين الماضيين. فمنذ قيام ثورة يناير والسخرية (على ودنه) لا تُفرِّق بين المنخلع والضربة الجوية. انتبهت إلى الغيظ المكتوم بين أزيز المقاتلات السوبرسونيك فى سماء القاهرة لأول مرة بهذه الكثافة منذ عقود. وكأن الجيش يؤكد اعتزازه بطيرانه رغم حملات اللا عقل، وكأن الطيران يقدم بيانا عمليا للشعب أنه حامى هذه السماء. لا بد أن نتفق على أن القوات الجوية لعبت دورا هاما ككل الأسلحة المصرية فى نصر أكتوبر، ونعطيها حقها. لا بد أن نتذكر، حتى لا نكرر خطايا طمس التاريخ، أن مبارك كان قائد القوات الجوية فى هذه المعركة المنتصرة، وأن نقرَّ بأنه أدى دوره فى مهمة الضربة الجوية الأولى لأن تلك ببساطة هى الحقيقة. حقيقة أيضا أن كل ما وجهه من ضربات بعد ذلك كان فى صدورنا، لكنه الآن قيد الحساب ورهين القفص، فلا بد من يوم معلوم تُردُّ فيه المظالم. النقطة الأخرى التى أود طرحها هو ميلنا إلى البحث عن بطل وحيد لكل قصة، فى حين أن أغلب القصص لا يمكن أن يكون له بطل وحيد، وعلى رأس تلك القصص: الحروب. فكل من ذكرَتهم وسائل الإعلام الذين سبقت الإشارة إليهم أبطال، وهم ليسوا وحدهم، وليسوا الأكثر بطولة. البطل عندى هو كل جندى مصرى حمل السلاح بعد 67 وظل ينظر متلهفا إلى المانع المائى مستمعا إلى قصص الرعب واللهب وبارليف، فلما أتى نداء العبور وضع كل هذا تحت قدمه واندفع. حينما سرت ذات يوم على شاطئ البصرة، كان مجد القادة مكثفا حديدا وبرونزا فى تماثيل ضخمة كلها تشير بأصابعها إلى هناك، إلى ضفة أخرى حيث آلة الحرب تحصد وقودها من الأبطال الحقيقيين، من الجنود. فقط يحق لهؤلاء أن تكتب أسماؤهم بحروف صغيرة بين عشرات الآلاف من الأسماء على حائط ما فى نُصب الشهيد، لا فرق بينه فى بغداد وبين نظيره الذى شاهدته فى واشنطن. الضابط، بشكل عام ودون انتقاص من جدارته بالتقدير، يمارس العمل الذى اختاره. أما الجندى فليس لديه دافع سوى المعنى الأخلاقى والعاطفى للدفاع عن الوطن، بينما حقله وفأسه ينتظرانه، وورشته ودراسته، وحياته الحقيقية. لأكتوبر مليون بطل وبطل، وبينما قُصدت القصائد ودُبِّجت الأغانى وصُكَّت ألقاب المجد لهذا وذاك، أجدنى راضيا بكلام الشاعر الكبير -الجندى فى 73، الممنوع والمحاصر بعدها- زين العابدين فؤاد: الفلاحين بيغيروا الكتان بالكاكى ويغيروا الكاكى بتوب الدم وبيزرعوك يا قطن ويَّا السناكى وبيزرعوك يا قمح زرعة علم وبيدْخُلوكى يا حرب فحم الحريقة وبيزرعوكى يا مصر شمس الحقيقة وانت ميدان الحرب سينا البداية إنت جنينة الصلب والنصر راية إنت البكا والغُلب إنت الرحاية إنت البارود والحب والحرب جاية غنوا التلامذة الصبح للحرية الفلاحين ضموا غيطان القمح رفعوا الرايات بالفَجْر مِتندِّية رفعوا السنابل بنادق عبُّوا البنادق بارود الرملة قادت حرايق والنار فى دم الجنود والحرب زى جناين الحرية مُهرة ومالهاش حدود والحرب لسه فى أول السكة إتفجرى يا مصر إتفجرى بالحرب ينفلق النهار إتفجرى بالحرب ضد الجوع والقهر ضد التتار واتسلَّحى بالحرب للحرية واتفتحى وردة بدم ونار إتجمعى من ألف صرخة وضحكة والحرب لسه فى أول السكة.