نعم... لم يقم بالثورة غير الجواسيس!! إنهم الخارجون عن طاعة الرئيس مبارك... بينما كان الجميع يبحث عن طريقة للتوافق مع قوانين وقواعد الشطارة والحياة السعيدة. كل من بحث عن طريقة يسترزق بها من عصر انحطاط طويل، وقطاعات كبيرة استهلكت حياتها فى البحث عن ضابط ورجل أعمال أو شخص مهم صاحب نفوذ يحميها ويوفر لها حياة مميزة. نعم مبارك وزع توكيلات التميز على مجموعة صغيرة، صاحبة نفوذ وسطوة، يسعى كل فرد فيها للانضمام إلى الحماية. البلد كله كان يبحث عن «ضهر» يحميه من سفالات أمناء الشرطة أو تعديات صاحب أملاك طماع. والشخص الباحث عن الأمن كان يقضى نصف عمره فى البحث عن «ضهر» يسهل القرب منه الحياة الصعبة، ربما يكون ضابط شرطة يعفيك من الغرامات ومن الوقوف فى طابور رخص القيادة أو يصنع لك هيبة كاذبة أمام خصومك. الضهر يمكن أن يكون موظفا كبيرا يسهل الحصول على قرض فى بنك أو يعبر حواجز الموافقات على مشروع استثمارى. هذا التوافق مع النظام القديم يحول الشخص إلى مسخ بشرى ينزع الروح الحرة ويحولها إلى روح شرسة تدوس على الآخرين لتدارى ضعفها. فمن يعش فى كنف القوى.. أو فى حماية «واسطة كبيرة».. يفقد الجزء المهم من جهاز القيم الذى يحدد ويرسم المواقف والقرارات والانحيازات. دون جهاز القيم يتحول الشخص إلى مسخ مدجن يتوافق مع كل القيم السلبية ويمنحها صفات أخلاقية. كيف يمكن التوافق مع عصر حكمه لصوص أهانوا كرامة كل ضعيف لا يملك رقم تليفون «كبير» يحميه؟ كيف تحملنا...؟ والحقيقة كيف تحملتم 30 سنة من السرقة والنهب والإهانة وضياع العمر فى البحث عن كبير تعيشون فى ظله؟ هل هذه هى «الوطنية» التى يعتبر الخارج عنها «جاسوسا»؟ هل «الوطنية» هى الرضا بدولة الذل والرعب؟ هل «الوطنية» هلى طاعة اللصوص والقتلة باسم «مصالح عليا»؟ مبارك لن يدخل التاريخ لأنه قائد طلعة جوية فى حرب أكتوبر، ولكن لأنه قائد فرق الاستعمار الوطنى التى احتلت مصر 30 سنة، وحولوها إلى مزرعة تسمين ثروات لعصابة صغيرة جدا. حكم مبارك باسم «وطنية» كان يرى فى كل المعارضين عملاء وواجهات لقوى خارجية. مبارك كان يتحدث عن «المصالح العليا للوطن» التى لم تكن سوى قيم غامضة يمكنه باسمها أن يروض شعبا كاملا إما بالتخويف وإما بالتخوين. «الوطنية» هى الطاعة فى رأى من يمسك السلطة، ويروض الشعب إلى الطريق الذى يريد؟ كانت «الوطنية» أو قمتها العالية هى الحرب مع إسرائيل، وهزمنا، وأصبحت الوطنية هى الاستنزاف فالحرب الكبرى، ثم فض الاشتباك، وهنا انقسمت الوطنية إلى «تفاوض» و«لا تفاوض»... وهنا أصبحت «الوطنية» هى السلام مع إسرائيل، والخارج عنها جاسوس وعميل لقوى خارجية، ويحاكم ويوضع فى السجون. وهكذا فالمصالح العليا هى ما تراه السلطة وتريده. والخارج عنها جاسوس... وحاقد ومأجور. هذه تقاليد «الوطنية» الكاكى، وطنية الطاعة والطوابير وقطعان تحارب بأوامر وتسالم بأوامر. المشكلة عندما انتقلت هذه الوطنية الكاكى إلى المجال المدنى، وطلبت السلطة من الشعب التحول إلى «جنود» فى معركة لا أحد يعرف متى تنتهى. هل يعقل أن مصر هى الدولة الوحيدة فى العلم التى تقنع فيه السلطة شعبها أنه معرض للمؤمرات ولا فرق بين عبد الناصر والسادات ومبارك والمجلس العسكرى؟ هل من الطبيعى أن كل معارضة لا تسمع الكلام تصبح مأجورة وتعمل ضد «المصالح العليا»؟ الحقيقة أن هذه كلها مفاهيم مستوحاة من تصور هتلر عن الدولة. تصور يضع الشعب فى حالة طوارئ، ويبعده عن المشاركة أو المطالبات لأننا فى «حرب» وهى شىء لا يفهمه سوى قلة قليلة، خبراء هم الذين يعرفون وحدهم «المصالح العليا» للوطن. وهذه تصورات واهمة.. لأن المصالح العليا هى «أنا».. هى الفرد الذى يجب أن يشعر بالأمان والكرامة والحرية والعدالة قبل الخبز دائما. الفرد هو الأمن القومى فى الدول الديمقراطية... ولهذا كلنا جواسيس... نبحث عن حرية وعدالة وكرامة... كلنا جواسيس نحلم بمصر جديدة .