المجلس العسكرى يحكم الآن، ولا يريد أن يقيم طويلا بعيدا عن الثكنات... هذا ما يقوله المجلس، وما تراه قطاعات مختلفة من قوى مشاركة فى الثورة أو حولها بأنه «خدعة» لا بد من كشفها سريعا. المجلس يريد احتلال دور الأب، يقيم معنا إلى 2013 ويريد تسليمنا الدولة الديمقراطية «تسليم مفتاح»، ويدفع أموالا لدعم أحزاب الشباب لمواجهة أحزاب المال من فلول وغيرهم بدلا من وضع قوانين ترسى قواعد جديدة للعبة السياسة. هل سيحكم العسكر؟ يتحول السؤال إلى هاجس، أو هستيريا من أى ملمح يذكّر بما حدث فى 1954 عندما خرجت مظاهرات شعبية ترفض الديمقراطية. شبح 1954 يصيب الثوار بالفزع من سرقة الثورة أو تحويل مسارها إلى جمهورية عسكرية أو جمهورية آيات الله الذين ذبحوا الثوار وعلقوهم على المشانق فى ميادين عامة، بعدما اشتركوا معا فى إزاحة الشاه وجنرالاته الكبار. الموضوع أكبر من اكتئاب ما بعد الثورة، أو الخوف عليها، ولكن الذعر أصبح أسلوب عمل سياسيا لمن لم يتعودوا على ممارسة السياسة. السياسة لم تكن فى مصر أكثر من سيارات إسعاف تنجد المصابين أو قوافل محامين تهرول خلف المعتقلين، لم يكُن على أجندة حزب سياسى أو حركة سرية أكثر من مناوشة الوضع القائم، حشر عضو فى مجلس الشعب، أو الاحتجاج على سياسة من سياسات النظام، أما تصور الوصول إلى السلطة، أو تشكيل حكومة أو اختيار رئيس، فهذا كان ضربا من خيال، يربك الجميع الآن عندما تحول إلى واقع وفى الشارع. مثل أطفال يحلمون باللعب، وعندما وجدوا أنفسهم فى الملعب، أصابهم ذعر أنهم سيلعبون فعلا، وهم بلا خطة لعب ولا ثقة مبنية على خبرات سابقة بأنهم سيستمرون فى الملعب، الخبرات القديمة كلها مريرة، وأورثت ثقلا راسخا من الانهزامية والشعور بأن «المباراة لن تكمل». ذاكرة سوداء، لعمليات انقضاض على الديمقراطية، وبناء لم يتوقف لدولة القهر والبطش، بمؤسسات حديثة، انحازت فى لحظات عصيبة إلى التحرر من الاستعمار، فالشرطة شاركت فى حرب فدائية ضد الاستعمار وعيدها القومى اختير احتفالا بشهداء هذه الحرب، وهو نفسه يوم الثورة. أى أن المؤسسة التى أنشئت لتكون عنصرا من عناصر «حداثة وطنية»، ظلت الحداثة قشرة خارجية لها، أو بناء منفصلا عن دور كبير فى القمع والسيطرة، إلى أن تحولت الشرطة إلى «جهاز سياسى» يقود الدولة البوليسية. التحول إلى جهاز سياسى يفسر أساطير خرجت بعد تفتت الطبقة الأولى من نظام مبارك. الأساطير تقول إن حبيب العادلى كون تنظيما سياسيا سريا بالتحالف مع مجموعات فى حاشية مبارك وعائلته (جمال مبارك وأحمد عز...)، تنظيما سياسيا أعطى روح المافيا التى حكم بها مبارك، بعدا جديدا، حيث أصبحت «الدولة»، ومع عجزها وتوحشها، تدير الإجرام المنظم، وتجيّش البلطجية، وتستدعى من مخازن الذاكرة كل الأساليب العتيقة فى قهر الشخص، وتحويله إلى «مسخ خائف». هذه الأداة الأولى والرئيسية لاستمرار النظام، وتحويله الشعب إلى عبيد لا مواطنين... تحول استغرق سنوات طويلة ممتدة، ترسخت فيها أسطورة أن الحاكم قدر، وعلى العبيد الطاعة الإجبارية، وإلا فسيدخلون المسالخ. السياسة لم تكن هنا سوى الجسارة.. جسارة التمرد على القدر وكسر أطواق حديقة الحيوان الكبيرة التى يروض فيها الشعب مثل الحيوانات الشرسة. الجسارة ولدت الثورة، لكنها لم تتحول إلى سياسة بعد. الجمهور نزل الملعب... لكنه لا يمتلك خطة لعب ولم يكون فرقا.. والجيش هنا ليس فى كتالوجه إلا السيطرة.. ومن هنا وُلد الصدام بين الثورة والمجلس.