أبدأ باستئذان القارئ الكريم فى بقاء هذه الزاوية يوما آخر فى راحة البعد عن مجريات دراما السياسة فى الواقع المعيش، والمزيد من التنقيب عنها فى الإبداع الدرامى، ولقد رأيت أن الأجواء المحيطة بنا بعد بدء محاكمة الرئيس المخلوع حسنى مبارك أمس، ربما يناسبها استحضار واحدة من أشهر مسرحيات الشاعر والمسرحى الألمانى ذائع الصيت بريتولد بريخت (1898-1956) وهى مسرحية «محاكمة لوكولوس». وتعالج المسرحية، التى كتبت فى البداية كتمثيلية إذاعية، قصة قائد رومانى قديم يدعى «لوكولوس» ارتبط اسمه فى التاريخ بقائمة غزوات وحروب طويلة ومسيرة عنف مروع سقط ضحيتها مئات الألوف بينما كان العائد والإنجاز اليتيم الذى يعرفه البسطاء ويذكره له الإيطاليون حتى الآن هو أنه جلب إلى روما، وهو عائد من إحدى غزواته، شجرة فاكهة «الكرز» اللذيذة! يسجل التاريخ الواقعى حقيقة أن هذا القائد الرومانى لم يحاكم فى الدنيا (كما يحاكم مبارك الآن) عن جريمة إزهاقه أرواح عشرات ألوف الشباب والصبية الفقراء، لكن بريخت نصب له فى الخيال الدرامى محاكمة افترض أنها جرت فى السماء بواسطة محكمة أعضاؤها جميعا من أفراد الشعب العاديين الذين كانوا ضحايا نزواته (مزارع، وفران، وبائعة سمك، ومعلم فى مدرسة). استهل بريخت المسرحية بمشهد جنازة مهيبة تحيطها أجواء الأبهة والعظمة وتسير فى مقدمتها ثلة من العبيد يحملون شاهد قبر فخما وهائلا محفورة عليه مآثر القائد لوكولوس وإنجازاته، وعندما يبلغ الموكب بوابة المقبرة يرتفع صوت يأمر الحشد بالتوقف لأن الميت سوف يعبر الآن الباب من دنيا الفناء إلى دنيا الخلود والبقاء ولا بد أن يكون وحده وحيدا عاريا من أى مواكب.. «فهناك خلف الباب ثمة قضاة ينتظرونه ليحاكموه» على الأفعال والارتكابات التى اقترفها فى الحياة الدنيا. ينتقل بنا بريخت بعد هذا المشهد إلى وقائع المحاكمة التى تبدأ بتلاوة قائمة طويلة من التهم كلها ويا للعجب مستقاة من المآثر المكتوبة على شاهد قبر لوكولوس، إذ يتضح أن كل إنجاز منسوب إليه كان فى الحقيقة والواقع جريمة دفع ثمنها الفقراء والضعفاء سواء فى روما قلب الإمبراطورية، أو فى مناطق بلدان الشرق التى عربد فيها. لكن القائد الرومانى لم يعدم فى أثناء المحاكمة من يتصدى للدفاع عنه مستشهدا ومذكرا هيئة المحكمة والرومانيين جميعا بمأثرة لا يمكن إلا أن تحسب فى ميزان حسنات الرجل ولا يعقل وضعها فى قائمة الشرور والجرائم، هذه المأثرة هى تعريف أهل روما بفاكهة «الكرز» التى أضحت منذ أتى بها معه من إحدى غزواته، تزين حقول المزارعين.. هكذا قال أحدهم فاضطرت بائعة السمك أن ترد هاتفة متسائلة بغضب: وهل كانت شجرة كرز تحتاج إلى كل هذه الثروات التى أهدرت وكل هذه الدماء التى أريقت؟! وبعد.. أظن أننا قد نهتف هتافا مماثلا إذا أعيت الحيل والألاعيب القانونية جيش المحامين الأفاخم الذين يدافعون عن مبارك، فلجؤوا إلى تذكيرنا وتذكير المحكمة بأن عصره الطويل جدا شهد إنجازا ليس من السهل إنكاره عندما جعلنا نتعرف على ثمرة «الكانتلوب» لأول مرة فى تاريخنا! فهل كان «الكانتلوب» يحتاج إلى كل تلك الجرائم وكل هذا الخراب؟!