"أيقونة الشهداء" في الجيش المصري، تجسيد من لحم ودم لفكرة موت القائد وسط رجاله وهو يتقدمهم ليقول لهم: "اتبعوني"، فيتبعونه صاغرين حتى وإن تبعوه إلى الموت (لو يعرفونَ أن يموتوا.. مثلما فعلتْ)، ما زلت أرددها كلما جاء ذكر هذا الرجل وكلما توقفت في الإسماعيلية على شط القنال عند تلك النقطة المحببة إلى نفسي المعروفة ب"نمرة 6" أتذكر أنني أقف عند النقطة التي سقط فيها شهيدًا، فأهتف بهذا البيت من مرثية نزار قباني، لأنني من هؤلاء الذين يغبطونه على موته. نعم حتى الموت يمكن أن يثير غبطة البعض؛ كيف يمكن أن يموت البعض موتًا عظيمًا، أو أن الموت يهب جلالًا وعظمة أحيانًا لمن يستحقون هذه الغبطة. نقول إنه "الجنرال الذهبي"، لأنه اكتسب هذا اللقب في أثناء دراسته في سنوات شبابه الأولى في روسيا. ونقول إنه "الشهيد"، الذي جعل من يوم استشهاده يومًا لإحياء ذكرى كل شهدائنا، فأصبح يوم الشهيد في بلدنا مصر هو يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، أعلى رتبة عسكرية سقط شهيدًا. نقول إنه "الجنرال الذهبي"، لأنه اكتسب هذا اللقب في أثناء دراسته في سنوات شبابه الأولى في روسيا. ونقول إنه "الشهيد"، الذي جعل من يوم استشهاده يومًا لإحياء ذكرى كل شهدائنا، فأصبح يوم الشهيد في بلدنا مصر هو يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، أعلى رتبة عسكرية سقط شهيدًا. متابعة التحقيقات الخاصة في يوم الشهيد كل رجال الجيش المصري شاهدوا بأعين رفاقهم وسمعوا بآذانهم هؤلاء الذين كانوا إلى جوار الشهيد عبد المنعم رياض.. كيف ظل ينتقل من حفرة لحفرة ليقترب أكثر من شط القنال، بينما تنهمر الدانات والقنابل من حوله ليرى عن قرب أين وكيف تضرب المواقع الإسرائيلية، بعد أن قصفتها المدفعية المصرية في اليوم السابق، ليطبق عمليًّا مقولته «أنا لست أقل من أي جندي يدافع عن الجبهة، ولا بد أن أكون بينهم في كل لحظة من لحظات البطولة». شاهدوا وسمعوا كيف سقط أمام جنوده وآخر كلمة نطقها "بسيطة"، وهو يطمئن من حوله عن إصابته. ثم تأخذنا الغبطة من تلك النقطة إلى الخلف سنوات وعقودا، لنرجع مع ذلك الجنرال إلى سنوات شبابه الأولى، ونتوقف عند محطات في حياته لتثير مزيدًا من الإعجاب والتعجب أيضًا، عندما نرصد كيف انصهر هذا الرجل مع مهام ومسئوليات مشواره ليصبح أو ليجعل من نفسه أداة للوفاء بالواجبات والمسئوليات المنوطة به، عن حب ورضاء بل وسعادة غامرة جعلته يهب حياته كلها للإعداد للمعركة الكبرى؛ معركة استرداد الأرض، فلا يكون في حياته زوجة ولا أولاد، بل فقط الجبهة والجنود والتخطيط للمعارك والحرب التي بدأها وسقط، ليكمل أولاده من الجنود والضباط مسيرة الأمة بأسرها مع حرب الاستنزاف. ولد الفريق محمد عبد المنعم محمد رياض عبد الله في قرية سبرباي، إحدى ضواحي مدينة طنطا محافظة الغربية في 22 أكتوبر 1919، وكان جده عبد الله طه علي الرزيقي من أعيان الفيوم، ووالده قائم مقام "عقيد حاليًا"، والتحق بالكلية الحربية دفعة أكتوبر عام 1936 واختار سلاح المدفعية ليتخصص به، ثم انتقل إلى الدفاع الجوي، الذي كان تابعًا للقوات الجوية. سريعًا بدأ الفريق عبد المنعم رياض حياته العسكرية عقب التخرج بالمشاركة في الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في 1939 وحتى 1945، ثم شارك في حرب فلسطين 1948، وشارك في حرب 1956، وعاش انكسارات هزيمة يونيو 1967، ثم كان أن أخذ دورًا ومكانًا في فريق قادة الإعداد للحرب، وأصبح الرجل الثاني بعد وزير الحربية والمسئول عن إدارة منظومة العمل في القوات المسلحة، وعن تدريب وإعداد القوات للحرب القادمة. علميًّا تعددت درجات العلم التي طلبها وحازها، فنال شهادة الماجستير في العلوم العسكرية، وكان ترتيبه الأول في التخرج 1944، وأتم دراسات للمدفعية في مدرسة المدفعية المضادة للطائرات البريطانية، وبمدرسة المدفعية في المملكة المتحدة، ونال تقدير الامتياز، ودرس اللغات الإنجليزية والفرنسية والروسية، وانتسب لكلية التجارة وهو برتبة الفريق. لقراء ابنة شقيقة الشهيد عبد المنعم رياض تروي أسرار حياته انتزع رياض مقاعد القيادة مبكرًا بعد أن مُنح وسام الجدارة الذهبي لدوره في حرب فلسطين وهو برتبة مقدم. فتولى قيادة مدرسة المدفعية في 1951، ثم تدرج في مناصب القيادة، قائدًا للواء الأول المضاد للطائرات في الإسكندرية، ثم قائدًا للدفاع المضاد للطائرات، في قيادة سلاح المدفعية، وظل في هذا المنصب إلى أن أُوفد، في 1958، إلى الاتحاد السوفييتي لإتمام دورة تكتيكية تعبوية في الأكاديمية العسكرية العليا في فرونزز، وأتمها في 31 يناير 1959، وحصل على تقدير الامتياز، وحصل أيضًا على لقبه الأشهر "الجنرال الذهبي" لتفوقه وتميزه وسط أقرانه في الأكاديمية الروسية. بعد عودته شغل منصب رئيس أركان سلاح المدفعية، ثم نائب رئيس شعبة العمليات، برئاسة أركان حرب القوات المسلحة، وانتُدِبَ للعمل في القوات الجوية، وأُسند إليه منصب مستشار قيادة القوات الجوية، لشؤون الدفاع الجوي، ثم اشترك وهو في رتبة اللواء، في دورة خاصة بالصواريخ، بمدرسة المدفعية المضادة للطائرات، وفي مارس 1964، عُيِّنَ رئيسًا لأركان القيادة العربية الموحدة. لقراء كيف تناولت «الأخبار» استشهاد عبد المنعم رياض؟ رُقي عبد المنعم رياض إلى رتبة الفريق في إبريل 1966، وفي 12 يوليو، من السنة نفسها، أتم دراسته بأكاديمية ناصر العسكرية العليا وحصل على زمالة كلية الحرب العليا. وعندما عُقِدَتْ معاهدة الدفاع المشترك، بين مصر والأردن في 30 مايو 1967، ووضعت بموجبها قوات الدولتين تحت قيادة مشتركة، عُيِّن الفريق عبد المنعم رياض، قائدًا لمركز القيادة المتقدم في عمان، وعندما شبت حرب 1967، عُيِّن الفريق رياض قائدًا عامًّا للجبهة الأردنية. وبعد الهزيمة وفي 11 يونيو 1967، عين الفريق رياض، رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، وبدأ إعادة تنظيم القوات المسلحة المصرية وبنائها. وكان أول اختبار عملي لما يمكن أن تكون القيادة الجديدة قد عملت عليه لتطوير أداء القوات في نهاية شهر يونيو، وبعد أن تولى منصبه كرئيس أركان حرب القوات المسلحة بثلاثة أسابيع فقط، عندما وقعت معركة رأس العش عند بورفؤاد وتصدت فصيلة مشاة لمحاولة العدو احتلال بورفؤاد وكبدته خسائر كبيرة. كانت معركة رأس العش شرارة انطلاق حرب الاستنزاف، معلنة عدم الرضوخ والتسليم بالهزيمة؛ وتوالت الاشتباكات مع العدو الإسرائيلي في أول مرحلة للاستنزاف، وهي مرحلة الصمود وإعادة البناء، والتي شهدت معارك بطولية، مثل إغراق المدمرة إيلات التي أصبحت علامة في الحروب البحرية الحديثة. ثم انتقل رياض بالمواجهات إلى مرحلة الدفاع النشط وتنشيط الجبهة، التي تطور فيها موقف القوات إلى عمليات إغارة سريعة بهدف تحقيق انتصارات والحصول على أسرى، وشملت عمليات سجلها التاريخ العسكري، مثل عملية تدمير قواعد الصواريخ الإسرائيلية في أكتوبر 1968 وعملية رأس ملعب ومعركة اقتحام النقطة الحصينة في الدفرسوار. لقراء الرقيب محمد سعد.. حقق حلمه بالعبور ونال الشهادة وتعددت المآثر يقصها الجنود والضباط عن علاقة الفريق رياض بهم، فقد كان حريصًا أشد الحرص على بناء علاقة مميزة مع مقاتليه. "اهتم بشئون جنودك ومشاعرهم"، هكذا كان يردد ما يؤمن به، وفي زيارة قام بها إلى الجبهة لمقابلة الجنود فى إحدى الليالي الباردة، شاهد جنديًّا يرتعد بردًا في نوبة حراسة، فسأله عن معطفه، فأجاب الجندى أنه أعاره لزميل ذهب فى مأمورية، فما كان من الفريق رياض إلا أن خلع معطفه وأعطاه للجندى قائلا: "فى الصباح لا تنسى أن تعيده لي". وفي 8 مارس 1969 أطلق الفريق رياض أولى معارك المرحلة الثالثة، وهي التحدي والردع، أو كما تعرف بحرب الاستنزاف، التي انتقلت بالقوات إلى عملية التطعيم بمعارك حقيقية وإنزال خسائر بالعدو، وهي المرحلة التي امتدت حتى أغسطس 1970 وشملت معارك عديدة مثل لسان بورتوفيق وشدوان والجزيرة الخضراء وبالوظة ورمانة وووو... وكلها معارك لم يشهدها الفريق رياض، لأنه سقط شهيدًا في اليوم التالي لبدء معارك الاستنزاف. يا أيّها الغارقُ في دمائهِ جميعهم قد كذبوا.. وأنتَ قد صدقتْ جميعهم قد هُزموا.. ووحدكَ انتصرتْ انطلقت حرب الاستنزاف بقصف مركز من المدفعية المصرية، ضد تحصينات ومواقع العدو على الضفة الشرقية للقناة، وكانت المدفعية هي الوسيلة الرئيسية للعمل خلال هذه المرحلة، حيث صبت على حصون خط بارليف، والأهداف الأخرى نحو 40 ألف قذيفة. بدأت المدفعية أعمالها يوم 8 مارس بأكبر حشد نيراني مؤثر. واستمر القصف خمس ساعات متواصلة، اشتركت فيه 34 كتيبة مدفعية، يعاونها حشد من أسلحة الضرب المباشر (المدافع المضادة للدبابات، والدبابات الثقيلة عيار 122 مم) لتدمير مزاغل نيران دشم خط بارليف. وقد أحدث هذا القصف تأثيرًا شديدًا على العدو، شرق القناة، حتى وصل حجم الخسائر إلى تدمير نحو 29 دبابة، و30 دشمة في خط بارليف، وإسكات 20 بطارية مدفعية، وحرائق شديدة في ست مناطق إدارية، وتمكنت القوات المصرية من تدمير جزء من مواقع العدو، وإسكات بعض مواقع المدفعية. "القائد يجب أن يكون بين جنوده في لحظات المواجهة لا على المكتب يتلقى الإفادات عن سير المعارك"، شعار تمسك به وطبقه دائما حتى آخر يوم في حياته. صباح اليوم التالي 9 مارس توجه الفريق رياض إلى الجبهة ليعاين على الواقع ما حدث في صفوف العدو من خسائر، وليكون بين قواته المقاتلة في تلك اللحظات البطولية.. هكذا آمن وردد دائمًا: "كن قدوة صادقة لجنودك"، "كن دائمًا بين جنودك فى السلم ومعهم فى الصفوف الأمامية في الحرب". اصطحب الفريق رياض مدير المدفعية وأحد ضباط مكتبه، واستقلوا مروحية إلى بورسعيد ومنها إلى خط الجبهة، وهناك انضم إليهم قائد الجيش الثاني الميداني، وتجول رياض بين وحدات الجيش يشد على أيدي الضباط والجنود. ثم طلب الانتقال إلى وحدة متقدمة على خط الاشتباكات وشاركت في القصف اليوم السابق حتى يعاين عن قرب مع الجنود آثار العملية التي أطلقها بالأمس، ويناقش معهم كيف كان القصف، وفعلًا وصل إلى الموقع 6، الذي اكتسب اسمه من معدية صغيرة تابعة لهيئة قناة السويس ولا يبعد سوى 250 مترًا عن موقع العدو. ويتذكر وزير الحربية آنذاك الفريق أول محمد فوزي في مذكراته عن حرب الاستنزاف يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، فيقول: "كان الفريق عبد المنعم رياض والمستشارون السوفييت يمرون يوميًّا تقريبًا على مواقع مدفعية الميدان وعلى القوات. وجاءت لحظة من اللحظات السيئة لا تحدث إلا نادرًا، إذ شاهد العدو رتلًا من عربات القيادة قادمًا من بورسعيد إلى الإسماعيلية على الطريق الموازي لقناة السويس، واستشعر العدو أن به شخصية عسكرية هامة، فتتبع سير الرتل حتى وصل إلى جزء من الطريق شمالا للإسماعيلية عند كوبري الفردان لزيارة مواقعنا بها، ثم إلى مواقعنا في نمرة 6 بالإسماعيلية، حيث أطلق العدو عددًا من طلقات المدفعية 155 مم، فاستشهد البطل رياض وجرح قائد الجيش الثاني، وفقدت بذلك نائبي وزميلي وصديقي في الخندق الأول للموقع الأول في النسق الأول لقوات الجيش الثاني". رصد الإسرائيليون إذًا وجود شخصية عسكرية كبيرة على الجبهة واستهدفوها، فأطلقوا قذائفهم على الموقع 6، فماذا كان من الفريق رياض؟ لم يتوقف ولم يرجع للخطوط الخلفية، بل ظل ينتقل من حفرة لحفرة وسط الجنود يتابع قصف العدو كأنه يود أن يطير بجسده ليقف وسط مدافعهم يرقب ويسجل خطوات تحركات المدفعية الإسرائيلية. هل نسي الفريق رياض أنه رئيس أركان الجيش المصري وأن تأمينه أولوية قصوى؟ لقد رفض توسلات الضباط بالرجوع والاحتماء داخل أحد الخنادق، وظل يقفز بين حفر الجنود ممسكًا بمنظاره المعظم يتابع قصف المدفعية الإسرائيلية ويعطي تعليماته من خلال الضابط المرافق له. حتى كانت تلك اللحظة التي توقف عندها الزمن فوق سماء وأرض المعركة، توقف بطيئًا ليختار بعناية كيف سيموت ذلك البطل ويمنحه لقب الشهيد، وتسقط إحدى الدانات بالقرب من الحفرة التي حشر نفسه فيها مع رفيقه، ويتسبب الانفجار في خلخلة الهواء في الحفرة، وتنفجر الرئة بهدوء ودون أن يشعر بإصابته. قال الضابط معه: "أنا انصبت يا فندم. رد رياض: وأنا كمان.. لكن بسيطة". وفارق الحياة وهو يرتدي "أفرول" الزي العسكري خاليًا من أي رتبة! ونال شرف الشهادة وسط وأمام أعين جنوده وضباطه. وعندما تلقى الرئيس جمال عبد الناصر، نبأ استشهاد رئيس الأركان، أنهى اجتماعه مع مجلس الوزراء، وغادر إلى وزارة الحربية، ثم أصدر بيانًا نعى فيه إلى الأمة العربية عبد المنعم رياض، جاء فيه: "لقد كان من دواعي الشرف أن قدم عبد المنعم رياض حياته للفداء وللواجب، في يوم مجيد، استطاعت فيه القوات المسلحة، أن تلحق بالعدو خسائر، تعتبر من أشد ما تعرض له. لقد سقط الجندي الباسل في ساحة المعركة، ومن حوله جنود من رجال وطنه، يقومون بالواجب أعظم وأكرم ما يكون، من أجل يوم اجتمعت عليه إرادة أمتهم العربية، والتقى عليه تصميمها قسمًا على التحرير كاملًا، وعهدًا بالنصر عزيزًا، مهما يكن الثمن ومهما غلت التضحيات". ومنح الزعيم عبد الناصر وسام نجمة الشرف العسكرية للفريق رياض ومنحه أيضا ترقية إلى رتبة الفريق أول. وتحولت جنازته في وسط القاهرة، التي اشترك بها الرئيس عبد الناصر إلى ملحمة وطنية، وبرغم أنها كانت جنازة عسكرية فإن جموعًا غفيرة من المواطنين قدرت أعدادهم بنحو مليون مواطن خرجت لوداع الشهيد في أكبر جنازة تشهدها مصر لرجل عسكري، وثاني أكبر جنازة على الإطلاق في تاريخ مصر بعد جنازة الرئيس جمال عبد الناصر. وكان غضب الشعب ومطالبته بالثأر وقودًا جاهزًا لمقاتلي الجيش الثاني فصمم البطل (إبراهيم الرفاعى) على الأخذ بثأره. وفى 19 إبريل عام 1969 تسلل أبطال الصاعقة إلى الضفة الشرقية، وانطلقت الصواريخ من الأرض والبحر، وتم تدمير مركز الدفاع الجوي الإسرائيلى بمنطقة تل سلام، وانطلقت الطائرات المصرية وضربت المعبر الإسرائيلي، وتوجه أبطال الصاعقة إلى الموقع الذي ضرب الفريق أول (عبد المنعم رياض) وتم قتل 44 إسرائيليًّا، هم كل قوة الموقع الإسرائيلي وتم نسف المخازن الإسرائيلية.. وفي صباح اليوم التالي قابل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الرفاعي ورفاقه وحياهم.