هل خفة الدم مهمة فى الاحتجاجات؟ ما هذا السؤال التافه الذى أتحفكم به! لدينا قانون طوارئ ممدد العمل به بموجب دستور 1971 «الملغى»، لدينا حكم عسكرى انتقالى يسعى للخروج بالثورة إلى «نتيجة حبية»، تعادل، بين المقتول والقاتل، وبين المخلوع والخالع، ثم أتحدث عن خفة الدم؟ لدينا اعتصامات وإضرابات «فئوية» تطالب بحقوق متأخرة، وحكومة عاجزة عن الفعل، ومجلس عسكرى يعتبر أنه الوريث الشرعى للبلد يفعل بها ما يريد، ثم أتحدث عن خفة الدم؟ هذه خفة عقل بلا شك. لكن خفة الدم ليست نكاتا تطلق، ولا هى مجرد ضحك وسخرية. ولا استخفاف بالمواضيع الجادة. خفة الدم حضور قوى، وثقة بالنفس فى هذا الحضور. تتجاوز حدودك وتصل بالرسالة إلى من حولك. وعدو خفة الدم الأول هو التوتر، وإحساسى هذه الأيام أن القوى السياسية متوترة. قراراتها انفعالية، وأداؤها على الأرض انفعالى. كفريق كرة تذكر فى الدقائق العشرين الأخيرة مدى أهمية المباراة وبدأ يمرر كرات طويلة. من جانب، ألتمس لها العذر لأن ميقاتى المباراة -الحكم- لم يقل لها من البداية إن المباراة 90 دقيقة أو ثمانون أو سبعون. بل لعب فى الوقت، قصره وأطاله، عطل اللعب، غير قواعده على مزاجه، أو ألهى اللاعبين. أحيانا كما يعِنّ له وأحيانا كما يعن ل«الفلول». بل وتدخل أحيانا لتقوية موقع هؤلاء الفلول أو لإضعاف لاعبين مهمين بين صفوف القوى السياسية ولتأليب الجماهير عليهم. ومن جانب آخر أحملها المسؤولية، القوى السياسية فى عرض مسرحى، أكثروا فيه من الإفيهات والارتجال والخروج على النص «مع تسفيه من ذكرهم بأهمية عدم التشتيت فى هذه المرحلة»، والآن لم يتبق لهم إلا قليل من وقت العرض، ويريدون أن يسرعوا ويبلغوا الجماهير ما تبقى من القصة، أن يكرْوتوها. قرروا الاستغناء عن الفن فى مقابل تأدية الواجب و«تبليغ» ما تبقى. لم يكن العدد فى الميدان قليلا يوم الجمعة، لكن الحضور كان قليلا. والحضور علاقة بين الملقى والمتلقى، والحضور يعنى اهتماما متبادلا، والحضور يعنى قدرة على التأثير. يبدو أن القادة السياسيين القدامى الذين التحقوا بالثورة التى قادها الشباب فى 25 يناير أثقلوا ظلها، كممثل ثقيل الدم انضم إلى عرض ناجح، أو كلاعبين عصبيين متباهين ب«ثقل الخبرة» انضموا إلى فريق متآلف. أرجوكم لا تخلطوا بين هذا وبين خفة الدم الفطرية للأفراد فى مصر، هذا شىء وذاك شىء آخر. الأول كمسرحياتنا التى يشارك فيها أفراد خفيفو الدم يقدمون إفيهات ويرتجلون، والثانى كمسرح جاد فى خفة دمه. وأكثر شىء يحتاج إلى تحضير هو الارتجال، كما تعلمنا ونحن نعمل فى الإعلام. من أجل أن ترتجل ارتجالا جيدا لا بد أن تكون «مذاكر كويس». التظاهر إذا جردته مما يتصل به فعل سخيف لا يفعله الإنسان فى أوقاته العادية، فالإنسان فى أوقاته العادية لا يصرخ ولا يرفع صوته، يفعل هذا فقط وقت الغضب. لكن هذا الفعل السخيف المعبر عن الغضب مطالب بأن يتحور ويتغير ويتطور لكى يتحول إلى فعل محبب، جذاب، قادر على الإفهام، وقادر على حيازة انتباه الناس لوقت طويل، لا أن نزيده سخافة، وكأن الجمهور دفع تذاكر وسوف يبقى على أى حال. المنصات المتعددة موجودة منذ الجمع الأولى بعد الثورة، ربما كانت وقتها مفهومة للتمييز بين القوى السياسية والتأكيد على اختلافاتها إزاء القضايا التى تتفتح يوما بعد يوم. لكنها صارت الآن «تغليسا» لا داعى له. الاختلافات بين القوى معروفة، بل إننا لا نعرف غيرها، وما نحتاجه الآن هو الاتفاق على نقاط معينة، بمنصة واحدة، بمتحدث من كل فريق يتحدث بينما يسمعه الآخرون. نريد أن نتسلى ونحن نستمع، لا أن نتشتت بمنصات يغلوِش بعضها على بعض، ويعتقد كل منها أن ما يقوله هو النور الصافى والبلسم الشافى.. هذه «غلاسة» لا تُحتمل، هذا «ثقل دم» لا يحتمل.