بدأ العديد من القوى السياسية القديمة والجديدة فى مصر، وكل من شاركوا فى ثورة 25 يناير تقريبا، التأكد من أن «الثورة!» كانت من أجل الإطاحة برأس النظام الحاكم. هكذا تؤكد كل الإجراءات التى تم، ويتم، اتخاذها منذ استيلاء المجلس العسكرى على السلطة فى مصر. لا ضرر ولا ضرار رغم كل الاتهامات التى يمكن توجيهها إلى هذا المجلس باعتباره سلطة سياسية لا تمثل الجيش المصرى بقدر ما تمثل نفسها. ولكن المجلس ووسائل الإعلام التابعة له يفضل خلط الأوراق لتقليص قوة الثورة وطاقتها إلى أقصى حد ممكن لتقف عند حدود تغيير رئيس الدولة وبعض الأفراد. لقد ظهرت مؤخرا فكرة مفادها أن الشعب المصرى لا يميل إلى العنف بطبيعته غير المغامرة، وأن عمليات التغيير قد بدأت بالفعل ولكن بطريقة تتفق وطبيعة المصريين المتأنية والبطيئة والعفوية. وأصحاب هذه الرؤية يميلون إلى فكرة التحلى بالصبر وعدم الإخلال بالأمن والاستقرار ثم يلقون بالمسؤولية على شباب الثورة ويدعونهم إلى العمل فى إطار ما يفرضه الحكم العسكرى من قوانين وإجراءات. هكذا يتم الترويج لفكرة الأمر الواقع ومقولة «ليس فى الإمكان أبدع مما كان» كغطاء لضرب فكرة الثورة فى جوهرها بحجة «الطبيعة المصرية» و«طبيعة الشعب المصرى»، وبالتالى بدأت المسافة تضيق بين شكل ونسق وطبيعة النظام الحاكم السابق، وبين مجمل طبائع النظام العسكرى الحاكم حاليا. من هنا يتضح أن الخيارات كثيرة ليس أمام النظام العسكرى وحكومة التكنوقراط التابعة له، بل أمام القوى السياسية العتيقة والجديدة وكل جيل شباب الثورة، والشعب المصرى بأكمله. إن مصر تُحكم منذ انتهاء مرحلة الاستعمار الكلاسيكى بأنظمة عسكرية شكلا ومضمونا وإن كان رأس الدولة قد تخلى نسبيا عن ارتداء ثيابه العسكرية واستبدل بها كل أنساق التفكير العسكرى والإجراءات القمعية على مستوى سَن القوانين وتطبيقها والممارسات الأمنية التعسفية على أرض الواقع. ومن ثَم تكون خياراته ضئيلة جدا، تنحصر فى الاحتفاظ بالسلطة تحت غطاء الحفاظ على مكاسب الثورة واستقرار البلاد وإدارة عجلة الإنتاج. يبدو أن المكسب الوحيد لما يعتبره النظام العسكرى «ثورة مباركة» هو وصوله إلى السلطة التى كان جزءا منها فى السابق. بينما خيارات القوى السياسية والمدنية كثيرة ومتنوعة بحجم تعدد هذه القوى وتنوعها واختلافها. ويتضح نظريا أن كفة هذه القوى هى الرابحة، بينما العكس هو الحاصل عمليا. وكلما تقلصت فاعلية هذه القوى وتعمقت تشرذماتها، تطابق النظام العسكرى «الجديد» مع مثيله «القديم»، خصوصا أن هذا النظام هو المتصرف الحقيقى فى كل موارد الدولة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. يبدو أن العقلية العسكرية الأمنية ستكون المحرك الرئيسى لتصريف شؤون الدولة الجديدة القديمة. ولا يمكن أن نندهش عندما نرى أن حكومة التكنوقراط التابعة للنظام العسكرى قامت بتعيين المحافظين من بين العسكريين أو القيادات الأمنية، بالضبط وفقا لبرامج النظام السابق. كما لا يمكن أن نندهش عندما نرى العديد من القنوات التليفزيونية فى أيدى اللواءات العسكريين أو الأمنيين. بل ويواصل بعض اللواءات اليوم شراء قنوات تليفزيونية لتركيز الآلة الإعلامية فى يد النظام العسكرى الجديد القديم إلى جانب وسائل الإعلام التى تعمل لحساب هذا النظام تحت مسمى وسائل إعلام الدولة! إن القوى اليسارية فى مصر متشرذمة وماضيها سيئ، وأصبحت خاضعة لمعادلة خطيرة بعد 25 يناير. الأجيال الجديدة المنظمة التى شاركت بقدر كبير فى الثورة لا تدرك بعد قيمة نفسها وما يمكن أن تقدمه، وبالتالى تطلب الشرعية من الأجيال اليسارية القديمة. بينما الأخيرة قامت بحركات بهلوانية فى الأشهر الأخيرة من انشقاقات وانقلابات واستقالات فى أحزابها وتنظيماتها وانضمت إلى جيل الشباب بهدف التطهر السياسى. ومع ذلك فالعقلية لم تتغير وكأنها تسير على نسق واحد مع عقلية النظام العسكرى الجديد القديم. أما القوى الدينية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون والسلفيون، فقد تكشفت عوراتها بمجرد نزولها إلى الشارع دون غطاء القدسية والمتاجرة بقمع النظام الذى كان يقمع الجميع لا التيارات الدينية فقط. هذه القوى أوقعت نفسها فى مآزق كثيرة جعلتها تتآكل وتفقد الكثير من قوة تأثيرها السياسى والاجتماعى، وبريقها الدينى. وبالتالى أصبح مستقبلها السياسى والاجتماعى على المحك، وبخاصة فى ظل وجود القوى الليبرالية والمدنية التى يشكل الشباب، بمختلف مشاربه وانتماءاته الاجتماعية والثقافية، جزءا كبيرا منها. لا شك أن النظام العسكرى يتصرف بحرية مطلقة فى كل موارد الدولة وفقا لنفس عقلية النظام الذى تصورنا أننا نهدم جدرانه. كما أنه يحافظ على كل المنظومة السابقة بلا أى تغيير. فكيف يمكن أن نطلب من قيادات عسكرية وأمنية واستخباراتية أن تشهد ضد رأس المنظومة التى كانت تعمل فيها لسنوات طويلة؟ كيف يمكن أن يقوم الشعب بثورة ويطلب من نفس النظام الذى حاولت الثورة هدمه أن يحميها ويحافظ على مكاسبها؟ لا يجب أن نتعجب عندما يلبس حبيب العادلى القضية، أو عندما تأتى الأحكام غير مطابقة لمواد العقوبات المنصوص عليها فى القانون ليفلت من يفلت ويقع من يقع من الحلقات الوسطى التى سيتم التضحية بها مقابل عدم فتح الملفات، وبقاء النظام القديم بكل أجهزته الإدارية والفكرية ومنظوماته الذهنية.