«إن المريض لن يستطيع أن يلبس ثوب العافية بمجرد رغبته بذلك»، هكذا قال أرسطو، فهذا ينطبق على المناضلة والمغنية الفلسطينية ريم بنا، التي رحلت بعد رحلة شاقة مع مرض سرطان الثدي، استمرت 9 أعوام؛ انتصرت عليه مرة بقوتها وصلابتها وحبها للحياة، إلا أنه عاد إليها مرة أخرى وانتصر عليها وسلبها صوتها؛ الذى ملأ الحياة بهجة وأملا بأن الحرب يومًا ستنتهى وتعود القدس إلى أهلها، لتفقد قدرتها على الغناء؛ فكانت هذه هى القشة التي قصمت ظهر البعير، لترحل «بنا» وتترك من خلفها إرثًا لن ينسى هو صوتها وأغانيها التي سجلت قصص النضال الفلسطيني. منذ صباح اليوم السبت، خيمت حالة من الحزن على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت الصفحات إلى رثاء للمناضلة ريم بنا، ناشرين كلماتها عن المرض وعن فلسطينوالقدس، بينما جاءت الرسالة الأكثر تأثيرًا هى آخر كلماتها التي تفوهت بها على صفحتها الرسمية بموقع «فيسبوك» فى الخامس من مارس الجاري، وتقول خلالها: «كنت أحاول تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية على أولادي.. فكان علي أن أخترع سيناريو.. فقلت لا تخافوا.. هذا الجسد كقميص رثّ.. لا يدوم .. حين أخلعه.. سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق.. وأترك الجنازة وخراريف العزاء عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة وسأجري كغزالة إلى بيتي سأطهو وجبة عشاء طيبة.. سأرتب البيت وأشعل الشموع وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة.. أجلس مع فنجان الميرمية.. أرقب مرج ابن عامر.. وأقول.. هذه الحياة جميلة والموت كالتاريخ.. فصل مزيّف». من هي ريم بنا؟ هى مغنية وملحنة فلسطينية ولدت فى 6 ديسمبر عام 1966، بمدينة الناصرة عاصمة الجليل، تربت في بيت فني ومناضل يعرف من عدوه ويحاربه بكل ما أوتي من قوة؛ فهي ابنة الشاعرة الفلسطينية زهيرة صباغ، إحدى رائدات الحركة النسوية، والتي طالما كتبت وسخرت قلمها من أجل نصرة فلسطين، وأخت المناضل فراس بنا، فمنذ الصغر عشقت الغناء وشاركت فى العديد من الاحتفالات الوطنية بالمدرسة، لتبدأ رحلتها وهى فى العاشرة من عمرها، لتدرس بعد ذلك الموسيقى فى المعهد العالى للموسيقى بموسكو. وتخصصت «ريم» في الغناء الحديث وقيادة مجموعات غنائية، وأثناء الدراسة أصدرت ألبومين غنائيين هما: «جفرا ودموعك أمي» حتى تخرجت عام 1991، لتتزوج من الموسيقى الأوكراني ليونيد أليكسيانكو الذي درس معها فى موسكو، لتنجب منه ثلاثة أطفال، وعاشت معه ببيت صغير يطل بالناصرة، ولكن زواجهما لم يدم طويلًا لينفصلا بعد 19 عاما، قبل معرفتها بمرضها بتسعة أعوام، لتربي هي أبناءها وكان مصدر رزقها هى الموسيقى والحفلات التي تحييها. صاحبة الأغنية الملتزمة ما إن تستمع إلى إحدى أغاني ريم بنا حتى تشعر كأنك لم تعد موجودًا على الأرض، فقد خطفتك في رحلة بعيدة بصوتها الملائكي الدفيء الذي لا يوجد له مثيل، ونجحت فى أن تخلق لنفسها أسلوبا ولونا مختلفا عن الجميع وكلمات تترك أثرا على نفس مستمعيها، وعرفت باللون الوطني والتهاليل التراثية الفلسطينية؛ لتمزج بين الموسيقى المعاصرة والتراث الفلسطيني الذي كان قد اندثر، فكان كلامها نابعا من معاناة شعبها؛ على مدى 27 عامًا هو مشوارها الفني قدمت أكثر من ألبوم غناء غلب عليه اللون الوطني، وسيطرت على أفكارها القدس والأسرى الفلسطينيون، ولم تنس الأطفال فقدمت لهم ألبوما كاملًا، والفقراء الذين طالما نادت بحقوقهم ليس فقط داخل حدود وطنها ولكن في كل أنحاء العالم. لم تقف موهبة «ريم» عند حد الغناء بل تخطتها لتؤلف كلماتها الخاصة؛ كما قامت بتلحين أشهر الأشعار الفلسطينية التي كتبها شعراء حملوا راية الدفاع عن وطنهم وقدسياتهم، أبرزهم: توفيق زياد، ومحمود درويش، وسميح القاسم، ووالدتها زهيرة صباغ، وذلك بمشاركة زوجها، الذي كان دائمًا ما يصف موسيقاها بأنها مؤثرة وعاطفية؛ بينما تحدثت هي عنه قائلة: «موسيقاه تصف وتعبر عن الذات الثقافية». مشوارها مع المرض عاشت ريم بنا قصة كفاح طويلة مع مرض السرطان، فكانت إحدى المحاربات التي شجعت غيرها فى أن يقف بوجه هذا المرض اللعين، ففى عام 2009 اكتشفت «بنا» أنها مريضة بسرطان الثدي، فلم تخشه يومًا ولكنها حاربته ونجحت فى أن تشفى منه بالفعل؛ لكنه عاد وهاجمها مرة أخرى، وظلت تقاومه حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وكانت تقول دائمًا: «إن الاحتلال غزا فلسطين، والسرطان يريد أن يغزو جسمي»، وبرغم من ألمها ووجعها فكانت الابتسامة لا تفارق وجهها وكانت تخوض معركتين فى آن واحد الأولى مع الإبقاء والمحافظة على الهوية والفن الفلسطيني والثانية فى محاربة السرطان بشجاعة وتحد وأمل كبير فى الشفاء. وفى أحد اللقاءات التليفزيونية تحكى ريم بنا مصارحة أبناءها الصغار بمرضها بعد تدهور حالتها وتساقط شعرها وقيامها بحلقه ومواجهة العالم، حيث تقول: «جلست مع أبنائي الثلاثة وأحاول أن أتماسك بعض الشيء، وشرحت لهم طبيعة مرضي أنه سيغير من شكلي؛ حتى جاءنى سؤال لم أستطع بعده أن أتمالك أعصابي ودخلت فى نوبة بكاء، حيث قال أحد أبنائها فهل سنبقى نعرفك بعد هذا المرض؟». استمرت المغنية الفلسطينية ريم بنا تقاوم المرض وتقوم بإحياء الحفلات بين جلسات العلاج، لتؤكد لجمهور بأنها لن تستسلم أبدًا، ستشفى من هذا المرض، فلم تكن تعلم بأن هذا المرض سيتوغل إلى روحها ويسلبها صوتها؛ إذ أصيبت بالشلل في أحد حبالها الصوتية، وذلك عام 2016، لتخرج فى يناير من هذا العام تصارح جمهورها بأنها لن تستطيع الغناء مرة أخرى، ولكنها قطعت عهدًا على نفسها أمامهم بأنها ستعود للغناء مرة أخرى، لترحل دون إتمام وعدها عن عمر يناهز 51 عامًا. سفيرة السلام على مدى مشوارها الفني نالت العديد من الجوائز والتكريمات، أبرزها حصولها على لقب «سفيرة السلام» وذلك عام 1994؛ بعد أن حققت شهرة واسعة على نطاق واسعة بسبب غنائها للأطفال الذين أحبوها وتربوا على صوتها، كما حصلت على شخصية العام أكثر من مرة بتونس، وفازت بجائزة فلسطين للغناء عام 2000، وآخر ما نالته هى جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2013. هكذا نعوا «الصوت الملائكي» خرج محبوها ومتابعوها من كل أنحاء العالم ينعون الصوت الملائكي العذب الذي رحل فجر اليوم، حيث قالت والدتها الشاعرة الفلسطينية زهيرة الصباغ، عبر حسابها الشخصي على موقع «فيسبوك»: «رحلت غزالتي البيضاء خلعت عنها ثوب السقام ورحلت.. لكنها تركت لنا ابتسامتها، تضيء وجهها الجميل، تبدد حلكة الفراق»، كما نعتها وزارة الثقافة الفلسطينية في بيان رسمي: «شكلت رمزا ملهما للنضال ضد الاحتلال وحملت فلسطين دوما بصوتها، ورحيل ريم بنا خسارة كبيرة للثقافة الفلسطينية فهي الفنانة التي قدمت لفلسطين أجمل الأغنيات حتى كبر جيل فلسطيني وهو يستمع لأغنياتها التي جابت الأرض». بينما قال وزير الثقافة الفلسطيني إيهاب بسيسو عبر صفحته الشخصية: «لن أقول عن ريم بنا... رحلت... ولكنني سأقول إن هذه الأخت الفلسطينية الغالية اختارت أن تحلق فجر هذا اليوم مع الملائكة في سماء الوطن.. صعدت ريم بنا نحو الأبدية وهزمت سرير المرض وبقيت لنا الذاكرة وبقي الصوت يغني فلسطين وسيظل يغني فينا فلسطين رغم رحيل الجسد». وكتب رئيس الوزراء السابق سلام فياض: «لروحك الرحمة والسكينة يا ريم وسيظل صوتك المتمرد وثورتك ضد الظلم ملهما لأجيال فلسطين القادمة نحو أمل يستحقونه بالحرية والكرامة وصفاء الروح». نعم، قد رحلت ريم بنا عن عالمنا اليوم، لكنها لا تزال حية داخل قلوب محبيها الذين لن ينسوا صوتها الملائكي، وروحها الجميلة المبتسمة دائمًا، وستظل رمزًا للأمل والتحدي والصمود.