الأحزاب السياسية شكلت أحد أقانيم الديمقراطية الليبرالية التعددية التى تدور حول الصراع والتنافس على القيم والمصالح الاجتماعية والاقتصادية فى إطار نظام سياسى ديمقراطى، وتبلورت تجارب هذه الأحزاب من خلال التنافس السلمى، وصناديق الاقتراع، وصيغة One Man One Vote -رجل واحد صوت واحد- الشهيرة. الصراع داخل التعدد السياسى والاجتماعى دار حول برامج سياسية متعددة كانت تعكس مصالح التركيبات الاجتماعية والطبقية المتبلورة نسبيا فى البناء الاجتماعى -العمال والفلاحين والطبقات الوسطى والعليا- ومن ثم انقسمت هذه الأحزاب وفق التقسيم التقليدى الذى ساد تاريخيًا بين اليمين واليسار والوسط، وغالبا ما كانت بعض أحزاب الوسط تضم بعض العناصر التى تنتمى إلى الفئات الاجتماعية ما دون الوسطى التى ترى أن بعض مصالحها الاقتصادية تتحقق من خلال التصويت إلى أحزاب الوسط على نحو ما شهدت بعض التجارب الحزبية الأوروبية فى فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا. من خلال آليات التنافس السلمى حول المصالح، تبلورت هذه التجارب تاريخيًا وراكمت تراثا حزبيا راسخا، وساعدت على تبلور التجارب الليبرالية، وفى تشكيل الثقافة السياسية الديمقراطية كقيم وسلوك حزبى وسياسى ونظام وكآليات. من هنا اكتسبت هذه الأنظمة السياسية دينامية وحيوية، وصراعا حول البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى دارت حول حاضر اللحظة التاريخية فى كل مرحلة ومستقبل كل دولة من الدول الديمقراطية الغربية. شكل الحزب السياسى الأداة الأساسية لتعبئة المصالح الاجتماعية والاقتصادية للشرائح الاجتماعية والطبقية التى يعبر عنها مستخدما فى ذلك السوق الإعلامى المفتوح، من صحف ومجلات وإذاعة، ثم التلفاز فيما بعد ظهوره، للدفاع عن برامجه ووجهات نظره سواء أكان فى الحكم، أو فى المعارضة. استطاعت أحزاب سياسية عديدة وعريقة أن تشكل مراكز للبحث داخلها، من مجموعة من الخبراء الذين ينتمون إليها، فى دراسة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتقديم تصورات للحلول الممكنة من وجهة نظر هذه الأحزاب وانتماءاتها الأيديولوجية والاجتماعية. من ناحية أخرى دراسة السياسة الخارجية الملائمة لمصالح الدولة فى ضوء السياسات العالمية المقارنة، من حيث الدفاع عن مصالح الدولة القومية، ونمط تحالفاتها الدولية، سواء داخل القارة الأوروبية لا سيما فى مرحلة الحرب الباردة وانقسام العالم إلى كتلتين رئيسيتين، الكتلة الرأسمالية الليبرالية الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة، والكتلة السوفيتية الاشتراكية -أو الشيوعية وفق الوصف الشائع آنذاك- وانقسام أوروبا إلى دول رأسمالية ليبرالية، ودول اشتراكية، ومن ثم وضع تصور لسياسات المواجهة أو الاحتواء إزاء المجموعة الاشتراكية. من ناحية أخرى وضع هذه المراكز البحثية الحزبية تصورات لمصالح الدولة إزاء دول ما كان يسمى سابقا بالعالم الثالث فى القارات الثلاث. مراكز البحث الحزبية أسهمت فى تطور هذه الأحزاب وتقاليدها وعدم اعتمادها على رؤية زعامة الحزب، أو على تحيزاتهم الأيديولوجية فقط، وإنما الاعتماد على الرؤية الاستراتيجية والبرنامجية، ولم يكن الهدف من هذه الرؤى هو محض الاختلاف السياسى مع الأحزاب الكبرى الأخرى، وإنما السعى لتحقيق المصالح القومية، وأمن الدولة القومى والاستراتيجى فى إطار تحالفاتها الدولية. غالبُ الأحزاب السياسية الاشتراكية فى دول المجموعة السوفيتية اعتمدت على نموذج الحزب الواحد المؤسس على مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا -الطبقة العاملة- على أساس أنها القاعدة الاجتماعية والطبقية التى تعبر عنها الدولة والنظام الاشتراكى. كانت صيغة الحزب الواحد الأيديولوجى تعتمد على مفهوم التعبئة السياسية والاجتماعية لهذه الطبقة العمالية عبر ممثليها، ومن ثم غابت الرؤى السياسية الأخرى، ولم يكن بمستطاع أى رؤية أخرى أن تجد تعبيرا لها داخل تركيبة الحزب الواحد، إلا قليلاً جدا، وفى إطار أن هذه الرؤية تشكل تعبيرا عن مصالح الطبقة العاملة، والانتماء الأيديولوجى لها والدفاع عن مصالحها وعن النظام الاشتراكى. اعتمدت الأنظمة الشيوعية على بعض أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية، مع المكاتب السياسية القيادية للحزب والحكومة، واللجان المركزية فى تحديد مصالح الدولة القومية فى إطار الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق، من ناحية أخرى اعتمدت على معاهد لتكوين الكوادر الحزبية من الناحية الأيديولوجية والتنظيمية. لم تستطع الأحزاب الشيوعية تحقيق الديمقراطية الداخلية بين القواعد الحزبية، ومستوياتها التنظيمية المختلفة، وقيادة الحزب إلا قليلاً، وربما نادرا. الأحزاب السياسية الليبرالية لديها مدارس تكوين سياسى لأعضائها من أجل تشكيل وتكوين كادرات سياسية للتعبير عن الحزب وبرامجه ورؤاه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفى ذات الوقت، تعتمد على الديمقراطية الداخلية بين المستويات التنظيمية للحزب على اختلافها من القاعدة إلى القمة. من ناحية أخرى تعتمد على الحراك التنظيمى القيادى من خلال تصعيد بعض الكوادر من أسفل إلى أعلى بناء على قدراتها وإنجازاتها الحزبية، وذلك مع عدم إغفال سطوة بعض القيادات الحزبية، واختياراتها فى تصعيد الكوادر، وفى ترشيحهم فى الانتخابات المحلية والعامة، وذلك لشغل بعض المقاعد فى البلديات، أو فى البرلمان. من ناحية أخرى كانت المعارك الانتخابية البلدية بمثابة مختبر سياسى، وإدارى لبناء وتشكيل الخبرات لدى بعض مرشحى ثم أعضاء هذه الأحزاب أيا كانت انتماءاتها السياسية والاجتماعية، ومدخل لبعض أعضائها فى عضوية المحليات أو البلديات، للحراك القيادى داخل الحزب، ولترشحها فى الانتخابات العامة لدخول البرلمان، أو لدخول بعضهم إلى التشكيلة الوزارية فى حال نجاح الحزب فى الوصول إلى الأغلبية البرلمانية، أو فى ظل حكومات ائتلافية. أسهمت الأحزاب السياسية الأوروبية فى مشاركة المرأة فى الحياة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصولا للحرب الباردة وما بعدها، حيث اتسعت هذه المشاركة فى تشكيل البرلمانات والحكومات المختلفة للأحزاب المتنافسة، منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضى وما بعد، كان دور المرأة السياسى يتنامى فى ظل النزعة الجندرية -الجنوسية- وسياسة التمييز الإيجابى التى أخذت بها دول غربية عديدة. فى الأحزاب الاشتراكية كان تمثيل المرأة واضحا، فى إطار الأيديولوجيا الشيوعية الحاكمة. لا شك أن دور المرأة السياسى أسهم فى تقليص ذكورية الأحزاب والسياسة فى الدول الديمقراطية الغربية. إن نظرة على تطور الحياة الحزبية الأوروبية، وفى أمريكا الشمالية -كنداوالولاياتالمتحدةالأمريكية- لم تكن المنافسات الداخلية، والصراع السلمى حول المصالح والبرامج السياسية، نموذجية وفق النموذج النظرى والتطبيقى لتجارب الديمقراطية الغربية، وإنما تشكلت أوليجاريكيات سياسية داخل الأحزاب الكبرى التى تتداول النجاح فى الانتخابات والحكم فيما بين بعضها بعضا كما فى بعض النماذج، كبريطانيا -نموذج وستمنستر- وفى فرنسا، والولاياتالمتحدة وإنما تشكلت جماعات ضغط من رجال الأعمال من الشركات الكبرى العملاقة، ومن ضمنها أيضا الصناعات العسكرية -المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى على سبيل المثال- وتأثير هذه الشركات المتعددة للجنسيات على الأحزاب السياسية، وعلى قياداتها، وعلى الحكومات. ومصدر التأثير تمثل أيضا فى تمويل بعض رجال الأعمال لبعض الأحزاب وقياداتها فى الانتخابات العامة والبلدية، وفى الولايات المختلفة كما فى أمريكا على سبيل المثال. فى بعض الأحيان ظهرت أشكال من الفساد السياسى لبعض قادة هذه الأحزاب، من ناحية أخرى أسهمت بعض الدول النامية فى تمويل بعض الأحزاب وقياداتها كما ظهر فى الحالة الفرنسية فى بعض الأمثلة. لا شك أن النموذج التاريخى للحزب السياسى فى أوروبا على وجه التحديد، تعرض لمشكلات عديدة، وتحولات اقتصادية وجيلية وتكنولوجية فى بنية التطور التاريخى للرأسمالية الأوروبية، أثر على هذا النموذج ومدى فعاليته، وقدرته على التأثير فى الاتجاهات المختلفة للرأى العام، وفى قدرته على التعبئة وتوليده لقواعد التأييد الجماهيرى المختلفة اجتماعيا.