كعادتها كل يوم، تجلس عجوز عربية أمام منزلها البسيط، تتبادل أطراف الحديث مع الجيران، خاصة أنها تعاني من الوحدة طوال 40 سنة بعد رحيل زوجها ونجلها، لكن ثمة شيئا جديدا طرأ على السيناريو اليومي صباح ذلك اليوم، معلنا الفصل الأخير من حياتها.. جثة متفحمة على أريكة منزلها الضيق، تفصلها أمتار قليلة عن الجاني. منذ 7 أشهر، اكتشفت الحاجة عليا فرج السوداني، التي تحمل الجنسيتين العراقية والمصرية، ذات الأصول السودانية، سرقة مبلغ 2500 جنيه من شقتها بالطابق الأرضي، إلا أن المتهم كان بمثابة مفاجأة لقاطني شارع رجب خليفة بمنطقة الطالبية "محمد جارها هو الحرامي.. بس أمه عرفت تهربه من الحكومة ورجعت الفلوس للست الغلبانة"، يقول أحد سكان المنطقة. طوال 40 عاما، عاشت "أم غازي" بمفردها بعد وفاة نجلها الوحيد "غازي" في حادث سير منذ 27 سنة، تحظى بحب وتقدير الجميع "الكل بيحبها.. كانت بتعمل الخير دايما وماشفناش منها حاجة وحشة" يقول صاحب محل بقالة مجاور للعقار إن صاحبة ال86 سنة كانت بمثابة الأم الحنون على أبناء المنطقة بأكلمها "تقريبا الكل متربي على إيديها هنا.. دي ست بركة". الخامسة صباح الأحد الماضي، الهدوء يسود المنطقة ذات العقارات المتراصة، الشوارع تخلو من المارة إلا من المصلين القاصدين المسجد القريب مع سماع أذان الفجر أو عمال البناء في طريقهم إلى محال عملهم، إلا أن تصاعد أدخنة كثيف من عقار يشمل 4 طوابق، هرع بسببه الجميع لاكتشاف ملابساته. "اِلْحق يا حاج.. بيت الحاجة أم غازي ولع".. استيقظ الحاج عمر على أصوات الصراخ والاستغاثة، وأخذ نسخة من مفتاح الشقة -منحته إياها المرأة العجوز للاطمئنان عليها على فترات- إلا أن تصاعد ألسنة النيران بكثافة منع الأهالي من إخمادها "اتصلنا بالمطافي بس كانت كل حاجة انتهت". بعد السيطرة على الحريق الذي التهم محتويات الشقة، كانت الصدمة حاضرة، عُثر على "أم غازي" جثة متفحمة جالسة على الأريكة، وبدأ الجميع يفكر في سرعة إنهاء إجراءات دفنها بجوار نجلها -وفق وصيتها- إلا أن رجال المباحث رفضوا "ماحدش يقرب من الجثة.. المعمل الجنائي والنيابة عندهم شغل كتير". كلمات الضابط أثارت تعجب الحضور، وبادر أحدهم بسؤاله "هو في إيه يا بيه؟" فجاء الرد "الحريق في شبهة جنائية"، تقول جارة "أم غازي" إنهم ظنوا للوهلة الأولى أن اشتعال عقب سجارة وراء الحريق "كانت بتشرب سجاير"، مشيرة إلى أنهم لاحظوا اختفاء مشغولات ذهبية كانت ترتديها "غويشتين وخاتمين دهب" أوصت جيرانها بالتصرف فيها لتوفير مصروفات الدفن عند وفاتها "إحنا افتكرنا السجاير السبب". داخل قسم شرطة الطالبية، جلس المقدم علي عبد الكريم، وكيل فرقة الطالبية والعمرانية، يبحث مع فريق البحث ملابسات الواقعة، ووجه بتنشيط مصادر المعلومات السرية "عاوز فحص سريع ودقيق لعلاقات المتوفاة وخاصة الجيران". سويعات بسيطة مرت على فريق البحث تحت إشراف اللواء إبراهيم الديب، مدير مباحث الجيزة، حتى كشفت التحريات عن طرف الخيط بأن سائق توك توك يدعى "محمد.ع"، 28 سنة، يسكن في الشقة المقابلة ل"أم غازي" يتردد عليها باستمرار، عُرف عنه تعاطي المواد المخدرة، وإثارته للمشكلات بصفة دائمة. اتشحت المنطقة بالسواد حزنا على وفاة السيدة العجوز "خيرها كان على الناس.. ماتستهلش تموت كده" يؤكد ترزي بالمنطقة أنهم حاولوا إنهاء إجراءات الدفن لكن الشرطة طالبتهم بالانتظار لحين انتهاء التحقيقات حتى فوجئوا بمأمورية ألقت القبض على "محمد"، واقتياده إلى القسم. تحريات الرائد سامح بدوي، رئيس مباحث الطالبية، توصلت إلى أن جار المتوفاة وراء ارتكاب الواقعة، حيث عقد العزم على سرقتها وغافلها واستولى من داخل حقيبتها على نسخة من مفتاح شقتها، ثم توجه إلى شقتها، وعقب دخوله فوجئ بأنها مستيقظة وحاولت الاستغاثة بالأهالي، فأطبق على رقبتها وخنقها حتى فارقت الحياة، واستولى على مصوغاتها الذهبية، هاتف محمول ومبلغ مالي، عاد بعدها إلى شقته، ثم اختمرت في عقله فكرة إخفاء معالم جريمته فأشعل النيران بها. أسرة المتهم التزمت الصمت، رافضة التعليق على الواقعة، واكتفى شقيقه من والدته بالقول "أخويا غلط ربنا يسامحه.. وإحنا حقنا عند ربنا"، بينما أكوام ملابس ومتعلقات "أم غازي" المحترقة وُضِعت أمام شقتها، تذكر المارة بتفاصيل "جريمة الفجر".