أحمد منيب.. الخال القادم من أرض الأصالة وبلاد الذهب في جنوب مصر، صاحب السحر الخاص والمذاق المميز الذي لا يُنسى، فهو الأب الروحي ورائد الفن النوبي الذي كوّن الثلاثي الذهبي، وصاحب الفضل في انتشار فن الجنوب بكل بيت في ربوع مصر من خلال ألحانه، وكلمات عبد الرحيم منصور، وغناء محمد منير، وهو صانع الطفرة الملونة بلون الطين وطمي النيل في عالم الغناء، وأعاد للمصريين روعة السلم الخماسي في الموسيقى، واستطاع التأريخ لمنطقته ودمجها بالموسيقى الشرقية. هواية فنية مبكرة ولد أحمد منيب في 4 يناير 1926، بمدينة أسوان، ثم انتقل إلى الإسكندرية، حيث نال الشهادة الابتدائية سنة 1939، ورغم نشأته في الإسكندرية فإنه منذ صغره كان متشبعًا بالحضارة النوبية بكل قيمها الثقافية والفنية والاجتماعية والتراثية، واتضح ذلك من خلال تكوينه فرقة موسيقية صغيرة أطلق عليها اسم فرقة «منيب للتراث النوبي»، وكان يعمل خلال النهار ويُحيي الحفلات والأفراح ليلًا. منيب كان دائم الزيارات للنوبة، حيث تشرب بالتراث النوبي وأصبح في بداية الخمسينيات من أشهر مطربي وعازفي العود، والقاسم المشترك لكل حفلات وعرس النوبيين في الإسكندرية، وانتقل سنة 1951 إلى القاهرة، وقد سبقه اسمه وشهرته، والتحق بفرقة «زكريا الحجاوي للفنون الشعبية»، عام 1956، واستمر فيها عامين، والتقى هناك برموز وأدباء وشعراء النوبة، مثل الشاعر محيي الدين صالح، والفنان حمزة علاء الدين، وقدّم مع الأول أول عزف على العود في النوبة لأول أغنية نوبية تتكون من قالب الأغنية الحديثة «مذهب وكوبليهات»، حيث كانت الخميرة الموسيقية النوبية قبل هذا التعاون وليدة الممارسات الاجتماعية لدى أهل النوبة وجزءًا من طقوسها التي تتوارثها الأجيال بتنويعات لحنية ثابتة. الصوت النوبي وجد منيب مشروعه مع اهتمام ثورة يوليو بتوطيد العلاقة مع السودان وجنوب مصر، حيث أُنشئت إذاعة «وادي النيل» لربط خطابها الأيديولوجي بامتداد مصر الجنوبي ممثلًا في السودان، فوجد الفنان ضالته ووجه خطابًا إلى الرئيس جمال عبد الناصر، طالبًا فيه السماح للموسيقى النوبية بمساحة في الإذاعة المصرية كتأكيد على مصرية نوبيته، واستجاب الزعيم لخطابه وجاء برنامج «من وحي الجنوب»، ليسمع جمهور الإذاعة اللغة النوبية بلسان عبد الفتاح والي وبعزفه، لكن بعد فترة تم تأجيل البرنامج بسب انتشار أغاني عمالقة الغناء، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وظل منيب حبيس الأفراح والحفلات. وقدّم أحمد في بداياته الفنية العديد من الأغاني في جميع المناسبات الوطنية والقومية والعربية، فغنى لثورة يوليو، وللهجرة، ولانتصار 6 أكتوبر، وتراجع للتلحين فقط منذ منتصف السبعينيات، إذ التقى بالشاعر عبد الرحيم منصور، وجمع اللحن الحزين بالكلمة الثرية المهمومة القادمة من عمق الصعيد المجهول، وأكمل الشاب محمد منير، المثلث، منجزًا هذه المغامرة الخارجة عن النمط السائد والمسيطر حينها. رحلة مع النجوم بدأت علاقة منيب بمنير من خلال منصور، الذي أخبره بأن هناك شابًا نوبيًا يمتلك حنجرة ذهبية، ولا بد أن يستمع إليه، فوافق أحمد على مقابلته وآمن بموهبته، فأخذ في تدريبه على أداء ألحانه لتبدأ انطلاقة «الكينج» بألبوم «علموني عينيكي» عام 1977، واستمرت المسيرة ولحّن له 10 ألبومات متضمنة 43 أغنية صنعت منير وكانت الشرارة الأولى لنجاحه، ومنها: «حدوتة مصرية، الليلة يا سمرا، أم الضفاير، اتكلمي، افتح قلبك، في دايرة الرحلة، حواديت، قول للغريب، يا إسكندرية، يا مراكبي». ولحّن منيب العديد من الأغاني لمطربي الثمانينيات والتسعينيات، أمثال علاء عبد الخالق (الحب بحر، بناديلك، الحُب ليه صاحب، وغيرها)، عمرو دياب (يا طير يا متغرب)، إيهاب توفيق (اكمني)، محمد فؤاد (صدقني يا صاحبي)، حسن عبد المجيد (ربك هو العالم)، حنان (الحلو ساكت ليه)، منى عبد الغني (حالي)، هشام عباس (من طفولتي)، فارس (هاكتبلك)، كتكوت الأمير (اتمايلي)، عصام الخولي (راح أغني)، وحميد الشاعري (أجيلك)، وردّ الأخير الجميل وقام بتوزيع شريط (مشتاقين) لمنيب. أثرى الفنان النوبي الساحة الفنية بنحو 90 لحنًا، غنى منها 51، ضمّنها ألبوماته السبعة، وبدأها عام 1986 ب«مشتاقين»، ثم «كان وكان، يا عشرة، بلاد الدهب، راح أغني، قسمة ونصيب، حدوتة مصرية»، وهو أول من قدّم الصوت واللحن تعبيرًا عن الفن النوبي للجمهور المصري، قبل أكثر من نصف قرن، وأول من عزف على «الطنبور»، وهي آلة قديمة ذات جذور فرعونية. في 27 فبراير 1990 توفي أحمد منيب عن عمر يناهز خمسة وستين عامًا بعد رحلة حافلة بالعطاء والتجديد الموسيقي، ورغم ذلك ما زالت بصمته موجودة في أعمال كثيرة، ففي عام 2016 تقدم ورثته بشكوى ومستندات لنقيب المهن الموسيقية الفنان هاني شاكر، يطالبون فيها باتخاذ الإجراءات القانونية ضد «الكينج»، إما بإلزامه بدفع حق الأداء العلني أو منعه من غناء الأغاني التي لحنّها له الراحل، بعدما اتهموه بتجاهل نسب اللحن الذي أداه منير بتتر مسلسل «المغني» إلى والدهم.