الاسوأ لم يأتِ بعد، هذا ما قيل بعد المذبحة السابعة التي حدثت منذ أيام، ويبدو أن الجميع متأهبون في انتظار الثامنة، مذابح المدارس في أمريكا لن تتوقف لأن الظروف التي تتسب فيها لم تتغير، لا القوانين الفيدرالية، ولا الغضب الحبيس داخل النفوس، ولا مناخ العنف الذي يسود أهم بلد في العالم، ومع كل حادثة ترتفع الأصوات بالنقد والتحليل، دون أن تشير للسبب الحقيقي للخلل الموجود في بنية المجتمع الأمريكي نفسه، وعند وقوع أي حادث إطلاق نار جماعي تستنفر كل أجهزة الإعلام بالصيغة المألوفة، يبدؤون في سرد قصص الضحايا المؤثرة، وينتظرون المزيد من التفاصيل قبل أن يرسموا بورتريه شخصية الفاعل، تفاصيل يلتقطونها من خلال عائلته وجيرانه وزملائه في المدرسة، ففي بلدة باركلاند بولاية فلوريدا، حيث قام شاب صغير يحمل بندقية بقتل سبعة عشر شخصا في مدرسة ثانوية (ستود دوجلاس)، اسمه نيكولاس كروز، عمره 19 عاما، كان طالبا منذ أشهر قليلة في المدرسة نفسها التي قام فيها بالمذبحة. وكل التفاصيل كانت تتحدث عن العلامات المبكرة لعدم ثبات شخصيته، وسلوكه المعتل. كل الذين يعرفون كروز وصفوه بأنه شخص مضطرب، مهووس بالبنادق، وقال أحد زملائه السابقين في الفصل: عندما سمعت بالحادث عرفت على الفور أنه هو من قام بالقتل، كان كثيرون من رفاقه يتبادلون المزاح حول أنه ذات يوم سيطلق النار على الجميع، كانوا يتنبؤون بما سيحدث، رغم أنه الجنون، وقالت إحدى الجيران: إن أمه التي ماتت منذ عام مضى كانت تحاول التحكم فيه هو وأخيه زكاري وقد استدعت لهما البوليس أكثر من مرة، ربما كانت تود أن تخفيهما قليلا، وقالت إحدى الموظفات في إدارة المدرسة: كانت هناك مشاكل معه في العام الماضي مثلت تهديدا لبقية الطلاب، واضطرت المدرسة لفصله، وقال ناظر المدرسة: إنه كان يتلقى علاجا نفسيا، ولكنه توقف عن الذهاب للطبيب رغم أن الأعراض كانت ظاهرة عليه، وحتى الرئيس الأمريكي ترامب قال معلقا على الحادث: كانت هناك الكثير من الأعراض كانت واضحة على مطلق النار في فلوريدا تدل على أنه مختل عقليا، وقد تم رفده من المدرسة لسلوكه المضطرب، الجيران وزملاء المدرسة كانوا يعرفون أنه يمثل مشكلة، وعلينا أن نبلغ عن أمثال هذا السلوك كلما رأيناه". كلهم كانوا شهودا على سلوكه، مسئولون أو غير مسئولين، ولم يفعلوا شيئا، كانت ملامح القاتل المستقبلي واضحة أمام الجميع، ولكن العيب الرئيسي لم يكن في المرض النفسي، ولكن في الذين وضعوا السلاح في يديه، في قانون حمل السلاح الأمريكي الذي لا يفرق بين الشخص السليم والمعتل نفسيا، فبموجب التعديل الثاني في الدستور من حق أي شخص أن يحمل السلاح ويشتريه من أي مكان، لا يستطيع أي مسئول منع أي مختل عقلي حتى ولو كانت الأعراض تظهر عليه بوضوح من امتلاك السلاح، ولا القدرة على مصادرته حتى ولو تم احتجازه داخل أي مصحة. قبل أيام قليلة من الحادث قام كروز بطريقة قانونية شراء بندقية آ ر 15 نصف آلية، مخصصة للهجوم ويستخدمها القناصون، ويمكن حشوها بعدد كبير من الطلقات، القانون الفيدرالي لا يحرم بيع الأسلحة النارية إلا في حالات محددة، مثل الذين تمت إدانتهم في جرائم سابقة، أو حالات العنف المنزلي والتهرب من الخدمة العسكرية،، لا يوجد ما يمنع المرضى النفسيين من امتلاك السلاح إلا في ولايات قليلة مثل نيويورك وكاليفورنيا وميرلاند، لقد أصبح هناك تاريخ طويل من عمليات العنف التي يقوم بها المختلون عقليا، فليس للبوليس الحق في مصادرة السلاح إلا بشكل مؤقت، وإذا ضبطت الشرطة أحدهم يحمل بندقية بنية الانتحار لا تملك إلا أن تأخذها منه بشكل مؤقت لحمايته من خطرها، وتعيدها فور أن يطلبها، وحتى عندما تحدث ترامب عن هذه الواقعة تحدث فقط عن المرض العقلي ولم يتحدث عن قانون تملك الأسلحة، وربما لا يجرؤ على ذلك، ولا يجرؤ عضو في الكونجرس على رفع صوته، لأنهم جميعا يخشون نفوذ شركات صناعة الأسلحة ويعتمدون على أموالها، هي التي تقوم بتمويل حملاتهم الانتخابية، حتى لا يجرؤ أحد منهم على رفع صوته. لقد أصبح إطلاق النار على تلاميذ المدارس ظاهرة معاصرة، يقوم بها شباب بيض صغار السن، يخرجون جميعا من أسر مفككة، ويعانون من أعراض واضحة للخلل العقلي، وأحيانا لا يطلقون النار على زملائهم فقط ولكن على أهاليهم أيضا، بعضهم يسمع أصواتا تحرضه على القتل، والبعض الآخر يعتقد أن عليه مهمة تطهير العالم من الشخصيات الطفيلية كما يتصورون، ويرى علماء الاجتماع أنه من الخطأ النظر لها كأعمال فردية، ولكنها نتاج العنف الحبيس في أعماق المجتمع، خاصة وهو يرى أن من الطبيعي أن يتجول التلاميذ في مدارسهم وهم يحملون الحوادث السبع الكبرى البنادق، والتي شهدتها المدارس كان الجناة شبابا من صغار السن، عندهم قابلية كبيرة للتأثر، كانت كلها حوادث منفصلة ولكن متشابهة، كل مطلق للنار كان تحت تأثير عامل ما، كتاب قرأه أو فيلم شاهده أو لعبة مهووس بها، الرئيس ترامب نفسه من أكبر الداعمين لحرية حمل السلاح في أمريكا وطالب أكثر من مرة بخفض تمويل الوكالات والمؤسسات الرسمية التي تتعقب عمليات بيع الأسلحة، رغم أن منظمة أمريكية رقابية أكدت مؤخرا أنه ومنذ بداية العام 2018، هناك 18 حادث إطلاق نار في مدارس أمريكية، ما يعني أنّه بمعدّل كل 60 ساعة، هناك إطلاق نار في إحدى المدارس، أي لا يكاد يمر يومان ونصف دون أن تقع حادثة كهذه. هناك أكثر من 265 مليون قطعة سلاح منتشرة بأيدي الأمريكيين، أي أن هناك 89 قطعة سلاح مقابل كل 100 مواطن، مواطنون مدججون بالأسلحة في كل مكان، ولا يتورعون عن إرسال جنودهم المدججين إلى أفقر دول العالم ليقتلوا أهلها ويحرقوا بيوتها، والعنف الذي يمارسونه في الخارج يدفعون ثمنه في الداخل، إنه الثمن الذي يجب أن يدفعه هذا المجتمع الذي لا يكف عن ممارسة العنف ضد طبقاته المختلفة، ولن تتوقف مذابح المدراس.