مسحت دموعها وقالت لى «كنت أود أن يكون أبى شاهدا على هذا النصر، لقد ظلمه القذافى طوال سنوات حكمه ومات مقهورا، وكنت أود أن يشهد معنا هذه الفرحة» هكذا تحدثت إلىّ إحدى السيدات فى العاصمة الليبية طرابلس، بينما كانت تضم ابنتها الصغيرة التى ارتدت حلة زاهية احتفالا بالنصر فى جمْع، حضره المئات من أبناء طرابلس فى واحد من الاحتفالات التى أقيمت فى المدينة ابتهاجا بسقوط نظام معمر القذافى وتحرير طرابلس من هيمنة نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من الفساد والاستبداد، وحينما رويت القصة لأحد قادة الثوار حينما لقيته بعد ذلك ترقرقت الدموع فى عينيه هو الآخر، وقال وهو يمسحها «وأنا أيضا كنت أتمنى أن يكون أبى شاهدا على هذه اللحظة التاريخية لقد مات مقهورا مظلوما من القذافى». هكذا كان أهل طرابلس بين البهجة والدموع بعد ستة أشهر من الترتيب لانتفاضتهم التى وقعت فى العشرين من أغسطس الموافق العشرين من رمضان الموافق لذكرى فتح مكة، تلك الانتفاضة التى خططوا لها بعناية على مدى شهور الثورة، واثنين وأربعين عاما من حكم القذافى أعادهم فيها وأعاد فيها بلادهم إلى عصر ما قبل التاريخ. وقد سعيت طوال أيام عديدة من خلال الاستماع إلى كثيرين ممن شاركوا فى معركة طرابلس، سواء من داخلها أو من خارجها للتعرف على الكيفية التى سقطت فيها العاصمة الليبية فى أيدى الثوار، لاسيما وأن معالم معركة طرابلس لم تعرف بعد على كامل حقيقتها فى ظل التعتيم الإعلامى الهائل الذى كان مفروضا على المدينة وفى ظل أن الثوار كانوا يعملون تحت الأرض فى سرية تامة ووفق خلايا عنقودية حتى لا تكشف تحركاتهم، لأنهم كانوا يدركون جيدا أن النظام سوف يسعى للإبقاء على طرابلس بكل قوته حتى اللحظة الأخيرة، لأن سقوط طرابلس معناه سقوط النظام وهذا ما حدث بالفعل، إذن لم يكن سقوط طرابلس فى أيدى الثوار عفويا ولكنه استغرق فترة طويلة من الإعداد والتجهيز، وقد استشهد المئات من أبناء طرابلس خلال فترة الإعداد والمواجهات التى بدأت مباشرة مع اندلاع الثورة فى الخامس عشر من فبراير الماضى فى بنغازى. وفى الوقت الذى نجحت فيه الثورة التونسية فى إسقاط زين العابدين بن على، بينما كان حسنى مبارك على وشك السقوط اجتمع عدد من أبناء طرابلس على عشاء فى بيت أحدهم فى التاسع من فبراير وقرروا البحث فى مستقبل ليبيا، فى ظل ما شهدته تونس وما تشهده مصر وما يشهده الشارع الليبى من تململ وغضب من النظام، وتوالت الاجتماعات حتى اندلعت الشرارة الأولى للثورة فى بنغازى فواكبتها الانطلاقة -عفوية- فى طرابلس لكنها لم تظهر بسبب القبضة الأمنية القوية للنظام والتعتيم المتعمد على كل ما يحدث فى المدينة فى هذه الأثناء قررت المجموعة التى التقت فى التاسع من فبراير أن تلتقى مرة أخرى وأن توسع قاعدتها حتى زاد عددهم على العشرين شخصا بين مهندسين وأساتذة جامعات وعسكريين سابقين ورجال أعمال، وشكلوا تنظيما سريا عرف باسم «اثئلاف ثورة 17 فبراير» وبينما كانت أفكارهم تتبلور تمكن ثوار بنغازى من السيطرة عليها فى العشرين من فبراير، وبينما خرج سيف الإسلام نجل القذافى الذى كان يعده أبوه لخلافته بالظهور على شاشة التليفزيون الليبى يتهدد الليبيين ويتوعدهم، فخرج أهل طرابلس منتفضين إلى الشوارع بشكل عفوى مباشرة بعد الخطاب الذى ألقاه سيف، غاضبين ومرددين هتافات ضد النظام الفاسد المستبد الذى يحكمهم، حتى تحولت شوارع طرابلس إلى تجمعات صغيرة غاضبة هنا وهناك، والتقت الجموع فى ساحة الشهداء التى كانت تعرف بالساحة الخضراء، وكادت تحتلها ليتكرر مشهد «ميدان التحرير» فى القاهرة مما دفع القوات الأمنية التابعة للقذافى إلى أن تطلق الرصاص بشكل مباشر على المتظاهرين بالأسلحة الرشاشة، وقد أبلغنى بعض الأطباء أن بعض الشهداء وصلوا للمستشفيات وأجسادهم بها رصاص رشاشات ثقيلة، بعضها من مدفعية مضادة للطائرات، وقد وصل المستشفيات ما يزيد على مئتى جثة، والبعض أخبرنى أن عدد الشهداء فى تلك الليلة بلغ ثلاثمئة شهيد، غير أن كثيرا منهم ما زالوا فى عداد المفقودين، حيث قامت القوات الأمنية بأخذ الجثث من المستشفيات مباشرة ولا يعرف أحد مصيرها، غير أنه يتم الآن كل يوم اكتشاف مقابر جماعية فى أنحاء متفرقة من المدينة، وقد أبلغنى مصطفى نوح -وهو المنسق العسكرى لائتلاف السابع عشر من فبراير وعضو المجلس العسكرى لطرابلس ورئيس العمليات والضبط الأمنى فى اللجنة الأمنية العليا المسؤولة عن أمن طرابلس بعد التحرير- أن بعض الضباط الموالين للقذافى والذين قبض عليهم بعد نجاح الثورة اعترفوا أنهم كانوا يأخذون جثث الشهداء الذين سقطوا فى تلك الليلة، وبعض الذين سقطوا بعد ذلك إلى البحر، حيث كانوا يلقونهم فى الأماكن التى توجد فيها أسماك القرش والحيتان لتكون طعاما لهم، كما تم اكتشاف عشرات الجثث لشهداء، كانت مودعة فى بعض الثلاجات وجثث أخرى فى مقابر حفرت على عجل على شاطئ البحر، كما أن بعض المناطق فى طرابلس تحولت إلى برك من الدماء، حتى إن السلطات الغاشمة قامت بتحريك كثير من سيارات المطافئ لهذه الأحياء والشوارع لإزالة آثار الدماء التى غطتها فى تلك الليلة، هذه الوسائل القمعية غير الإنسانية والقائمة على احتقار الإنسان الليبى حيا وميتا من قبل نظام القذافى الفاسد زرعت الخوف والرعب فى نفوس أهل طرابلس من أول وهلة، غير أن ذلك لم يفتّ فى عضد أهل المدينة، وقرر القائمون على «ائتلاف السابع عشر من فبراير» مع تجمعات أخرى كثيرة داخل المدينة أن يعدوا الخطط والمواجهات بشكل سرى ودقيق حتى يتمكنوا من مواجهة هذا القمع وإسقاط المدينة من داخلها مع التنسيق الكامل مع الثوار من خارج المدنية للإطباق عليها، غير أن الأمر لم يكن سهلا على الإطلاق، وكان يستدعى عملا واسعا يقوم على التخطيط والسرية.