هل معنى الحرية أن نترك أى شخص يقول ما يشاء على الملأ بعلم أو دون علم؟ هل الديمقراطية أن نعطى لكل من هب ودب فرصة الحديث علانية فى أى وقت وفى كل مجال ومكان، لكى يقول ما يريد بصرف النظر عن حسن نياته أو سوئها؟ هذا ما يحدث للأسف حاليا فى الإعلام العربى وبالتحديد فى برامج «التوك شو» التى تذاع ليل نهار على مختلف القنوات الأرضية والفضائية، سواء الحكومية أو الخاصة، فهذه القنوات التى تبث إرسالها على مدى 24 ساعة يوميا تلجأ إلى كل ما هو ساخن ومثير وغريب لجذب المشاهدين والمعلنين، وأيضا لملء ساعات الإرسال المتصلة، وبناء عليه فهم يستضيفون حفنة من الأشخاص الجهلة فى مختلف المجالات، ويتركون لهم الحبل على الغارب ليتحدثوا ويفتوا بآرائهم الغبية أو المغرضة السامة، والضحية فى هذه الأحوال هو المشاهد المسكين الغلبان الذى تتضارب فى عقله ووجدانه كل المعانى والقيم والمعايير، وينتهى به الأمر إلى «لخبطة» فكرية، ويبقى مش عارف حاجة ولا فاهم الصح من الغلط، ولا شايف يمينه من شماله، وده كله بسبب جهابذة الجهل والكلام «الدش» الفارغ، الذين يمطرون أسماعنا بسيل من الكلمات «المكعبرة» دون أن يتمكن فى النهاية من الخروج بفكرة واضحة أو بمعنى ثابت نستفيد منه. فهذا مثلا السيد الدكتور الفولان الفولانى خبير الشؤون السياسية وأستاذ علوم «الهجص سولوجى» فى جامعة «فساكونيا» حيث تستضيفه المذيعة الملمعة أو المذيع المكتئب المكشر، ويسألونه عن رأيه فى ما يجرى بالمنطقة فى موسم «الربيع العربى»، وعلى الفور ينطلق الضيف ليلقى برأيه ويبعثر كلماته المبهمة المغلفة ببعض المصطلحات الإفرنجية الغريبة على مدى ساعتين أو أكثر، وتشاركه فى هذه الآراء حفنة من الضيوف الخبراء الجهلة أمثاله، ثم فجأة تجدهم يختلفون بحدة ويتبادلون الصياح والسب، بل واللكمات والضرب بالكراسى، كما حدث مثلا فى البرنامج الفضيحة إياه اللى كلكوا شوفتوه من فترة قريبة. ثم تنتهى الحلقة ولا نفهم نحن المشاهدين عن ماذا كان يتحدث هؤلاء أو ما هو هدفهم مما قالوا وفعلوا. ولنترك البرامج السياسية اللى لخبطتنا لنتحدث عن نوعية أخرى من البرامج المستحدثة أخيرا، وهى البرامج الجنسية، فمن وراء ستار الحرية والانفتاح الفكرى ظهرت على بعض الفضائيات نوعية من البرامج المثيرة الساخنة لعل أشهرها ذلك البرنامج -اللى كلكوا عارفينه- الذى تقدمه ممثلة كومبارس تحولت بعد هوجة الربيع العربى إلى مذيعة، وخصصت برنامجها لمناقشة القضايا الجنسية فى عالمنا العربى، وفى إحدى حلقات هذا البرنامج الجنسى الرخيص حدثتنا هذه المذيعة عن مشكلة غشاء البكارة، التى تؤرق، ولا مؤاخذة، الفتايات والصبايا المقبلات على الزواج بعد أن فُضت بكارتهن نتيجة علاقة جنسية سابقة. وتحدثت مذيعتنا وقالت باسمة «ماتشغلوش بالكو يا بنات بالحكاية دى دلوقتى، لأن العلم والطب اتقدم كتير، وبعملية جراحية بسيطة ماتاخدش ربع ساعة ممكن الدكتور (الخبير) يرجعك بنت من تانى على الزيرو». وقدمت المذيعة أحد الأطباء المتخصصين فى عمليات التزييف العذرى الذى هون الأمر على جميع المقبلات على الزواج، وطمأنهن على «استغفال» العريس الشرقى الرجعى بمنتهى السهولة. وبعد ذلك عادت المذيعة لتفجر قنبلتها الجنسية وتزف إلى فاقدات العذرية خبرا سارا وهو ظهور «غشاء البكارة الصينى» الذى ابتكره العلماء الصينيون خصيصا لبنات منطقة الربيع العربى فى مواجهة تخلف الرجل الشرقى، حيث تتمكن «العروسة» من تركيب الغشاء الصينى بنفسها فى دقيقتين بمنتهى السهولة دون الحاجة إلى طبيب لتستطيع بعد ذلك «استهبال» عريسها ابن الحلال. ولنذهب بعد البرامج الجنسية إلى نوعية أخرى وهى البرامج الدينية، فالقنوات الفضائية أكثرت جدا من هذه النوعية الجذابة، ودفعت بعشرات من مدعى العلم والمتشددين الجهلة ليلقوا بفتاويهم الغريبة وآرائهم المغرضة المعقدة صعبة الفهم، وكذلك الأكاذيب الملفقة والأخبار المسمومة، التى لا هدف لها إلا إثارة الفتن بين أبناء وطننا من مسلمين ومسيحيين، وللأسف هناك قنوات دينية متخصصة -إسلامية ومسيحية- تزدرى كل منها الدين الآخر، بعلانية وقحة وبتجريح لم يكن له مثيل. والنتيجة المنطقية والطبيعية لكل هذا التناحر والتخريب الدينى هى ما نراه من فتن ومواجهات وحروب بين أبناء أمتنا، والكل للأسف يستغل اسم الله الرحمن الرحيم ليشعل نار الجحيم على الأرض التى جعلها الله لنا، لتنشر فيها باسمه الكريم دعوة المحبة والتسامح، وللأسف يدعى هؤلاء المفسدون فى الأرض أنهم رجال دين. وبعد الدين والسياسة والجنس نصل إلى قنوات الفن وبرامجها، كلكم طبعا قرأتم الأيام الماضية فضيحة ذلك المنتج الفنى الذى كان يصور فى مكتبه بعض أنصاف الممثلات فى أوضاع جنسية فاضحة ومخلة بالآداب، ولا مؤاخذة. هذا المنتج -المحبوس حاليا- كان فى الفترة الماضية ضيفا شبه مستديم على برامج «التوك شو» الفنية، حيث كان يعطينا خبرته فى اكتشاف مواهب النجمات الصاعدات، وكان يقدم معه نماذج من بعض هؤلاء النجمات -المحبوسات حاليا معه فى ذات قضية الآداب- لكى يعطونا نموذجا لما يجب أن تكون عليه الممثلة، وهى فى بداية طريقها المضنى الشاق. تلك هى نوعية القنوات والبرامج والضيوف المسيطرين على ساحة الإعلام العربى هذه الأيام، وأنا لن أتهم هؤلاء بالفساد وإثارة الفتن والاسترزاق على قفا المشاهدين، بل سأترك لكم الحكم فى هذه القضية التى لا بد وأن نعيد النظر فيها بوعى وشرف واحترام، وقبل أن ندرس القضية لا بد وأن نسأل أنفسنا نفس السؤال «هل معنى الحرية أن نترك أى شخص يقول ما يشاء على الملأ بعلم أو دون علم؟ وهل الديمقراطية هى أن نعطى لكل من هب ودب فرصة الحديث علانية ليقول ما يريد بصرف النظر عن حسن نياته أو سوئها؟!