تلخصت قمة سوتشي التي جمعت رؤساء روسياوإيرانوتركيا، كدول ضامنة في صيغة "أستانا" حول سوريا، في الدعوة للبدء في وضع أسس التسوية السياسية، والشروع في استمالة دول العالم للبدء في التفكير بإعادة إعمار سوريا، والتحضير لمؤتمر الحوار الوطني السوري. هذا الأمر وإن كان قد ظهر كتحرك سياسي - دبلوماسي، إلا أنه لم يخل من عنصر الردع العسكري، لأن رؤساء أركان روسياوتركياوإيران التقوا في سوتشي قبيل ساعات من عقد القمة الثلاثية. وكان هناك تركيز لافت على هذا اللقاء باعتباره رسالة لأطراف عديدة. تقاطعت هذه القمة مع مؤتمر "الرياض 2"، حيث ترى قيادات هذه القمة أنه أحد المفاتيح الجيدة لإنجاح مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي. وذلك على الرغم من التباين الواضح بين مواقف المعارضة السورية وآمال عَرَّابي صيغة "أستانا" بشأن عدد من القضايا الجوهرية، وعلى رأسها مصير بشار الأسد. ولكن من جهة أخرى، هناك حالة من الارتياح لإمكانية البدء في مرحلة انتقالية تفصل بين مرحلة الحرب الواسعة وبين مرحلة جديدة قد تبدأ بوادرها بعد "جنيف 8". أي أن نجاح هذه المرحلة الانتقالية قد يقود إلى البدء في المرحلة الثانية من الأزمة السورية، وهي مرحلة التسوية السياسية. في ضوء مؤتمر "الرياض 2" وقمة سوتشي التي جمعت رؤساء روسياوتركياوإيران كدول ضامنه في صيغة أستانا، ظهرت بوادر إعادة صياغة للمواقف تتصدرها المرونة في إمكانية البدء في مرحلة انتقالية تمهيدا لعملية تسوية سياسية، قد تظهر بشائرها في الجولة الثامنة لجنيف أو بعدها، ولكنها ستكون ببدايات هشة تتخللها عمليات عسكرية واشتباكات. لقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن توافق أطراف قمة سوتشي الثلاثية على بدء العمل لإطلاق حوار سوري وطني شامل وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، ومواصلة العمل على تعزيز وقف الأعمال القتالية، والتطبيق المستدام لخفض التصعيد، ورفع الثقة بين أطراف الأزمة السورية. وشدد بوتين على أن "مؤتمر الحوار الوطني سينظر في القضايا المحورية للأجندة الوطنية العامة في سوريا، وعلى رأسها ما يتعلق بوضع معايير لهيكل الدولة السورية المستقبلية، وتبني دستور جديد، وإجراء انتخابات على أساسه بمراقبة من الأممالمتحدة. بوتين أعلن أن أطراف قمة سوتشي اتفقت على بذل الجهود لتحفيز الدول الأخرى للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، مشددا على الأهمية المبدئية لزيادة حجم المساعدات الإنسانية للسكان. كما أعلن بأن قمة سوتشي أقرت بيانا ختاميا مشتركا، يركز على أن النجاحات في هزيمة الإرهاب في سوريا تفتح مرحلة جديدة نوعيا لتسوية الأزمة بشكل عام، ووضع المبادئ السياسية للدولة في مرحلة ما بعد النزاع. جاءت هذه التصريحات المتفائلة علي خلفية أعمال مؤتمر "الرياض 2" الذي يكرس جهوده لتوحيد صفوف المعارضة السورية، استعدادا لجولة جنيف المقبلة، في ظل تعجل مثير للتساؤلات من جانب روسياوتركياوإيران في إقرار أمر واقع عبر صيغة أستانا ومؤتمر الحوار الوطني السوري، على الرغم من تحذيرات هذه الدول الثلاث من أن الإرهاب لم ينته بعد في سوريا.
من الواضح أنه لا تزال هناك خلافات على تفسير العديد من بنود ومفاهيم قرار مجلس الأمن رقم 2254. غير أن الأخطر، هو بوادر انقسام المعارضة السورية بشكل حاد، وخاصة فيما يتعلق بنتائج مؤتمر "الرياض 2". وبالتالي، فالمرحلة الانتقالية (بين مرحلة الحرب الواسعة التي استمرت طوال 6 سنوات وبين مرحلة التسوية التي لم تبدأ بعد) قد تشهد اشتباكات ومعارك، وربما عودة مجموعات داعشية، أو ظهور مجموعات إرهابية جديدة تماما. هذا إلى جانب أن مجموعات المعارضة السورية التي وجدت نفسها خارج كل المنصات والصيغ، قد تبدأ بتنظيم صفوفها. أي أن الأمور قد تعود إلى المربعات الأولى إلى جانب خطوط وقنوات للتسوية. إن تعجل روسياوتركياوإيران بالإعلان على الانتصار على داعش، لن يدفع هذه الدول إلى سحب قواتها من سوريا، بل على العكس، لأن قادة قمة سوتشي الثلاثية أعلنوا صراحة أنهم سيواصلون تنظيف سوريا من الدواعش، وسيعملون على اجتثاث الإرهاب تماما. وهو ما يتطلب آليات خاصة، على رأسها وجود قوات لهذه الدول. في الحقيقة، هناك مؤشرات قوية وتستند إلى معلومات، تشير إلى أن روسيا تحديدا تتعجل الإعلان عن النصر في سوريا من أجل أن تبدأ بالإعلان عن سحب قواتها، أو سحب الجزء الأكبر منها، مع الإبقاء على قاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم. هذا الأمر مهم للغاية بالنسبة لروسيا، لأنها على أعتاب انتخابات رئاسية بعد عدة أشهر. إضافة لأسباب كثيرة أخرى تخص الداخل الروسي، وتتعلق أيضا ببعض الملفات الخارجية المهمة. المثير هنا، أن موسكو قد تكون بالفعل تجهز للخروج من سوريا بعد إعلانات الانتصار التي نسمعها. ولكن هناك احتمالات أخرى بأن تنشط مجموعات إرهابية قديمة أو جديدة في سوريا، وقد تعيد المعارضة السورية، التي تم استبعادها، ترتيب صفوفها من جديد لخوض معارك ضد قوات الأسد. لكن الأخطر في هذا المقام، هو أن تعمل الولاياتالمتحدة بشتى الطرق لإجبار روسيا على البقاء في سوريا. إن موقف روسيا يبدو أكثر مرونة من موقفي إيرانوتركيا على الترتيب. ما يشير إلى أن روسيا لديها طيف أوسع من المصالح والترتيبات والتوافقات، والحرص على إنهاء الأمور بأقل قدر من الخسائر. وبالتالي، قد تتعرض روسيا لضغوط من تركياوإيران أيضا، وقد تظهر تناقضات بين موسكو من جهة، وبين طهران وأنقرة من جهة أخرى، في حال حدثت تقاربات معينة بين روسياوالولاياتالمتحدة في سوريا، أو قررت روسيا سحب قواتها والبدء في مرحلة التسوية بشروط مرنة ومتقاطعة مع مصالح الأطراف الأخرى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة والسعودية. كل الأمور مفتوحة على احتمالات مختلفة ومتباينة. وسيبقى مصير الأسد يمثل أحد أهم الصعوبات والعقبات والمعوقات أمام تسويات سلسة وبنَّاءة. ولكن من المحتمل أيضا أن يتم تكريس أمر واقع بشروط معينة يؤدى إلى إبعاد الأسد. وهذا الأمر تحديدا مشروط بترسيم حدود المصالح بين الولاياتالمتحدةوروسيا ووجود ضمانات لتحقيق هذه المصالح، ثم تحقيق مصالح حلفائهما في المقام الثاني بشكل يراعي المصالح والتوازنات الإقليمية بين هؤلاء الحلفاء. وبطبيعة الحال، لن تخلو الأمور من وجود تناقضات، بل وقد تحرص موسكو وواشنطن على الإبقاء على بعض التناقضات التي يمكن الاستفادة منها في ما بعد. إضافة إلى التناقضات الأصلية بين موسكو وواشنطن، والتي قد نرى تجلياتها خلال الفترة المقبلة على الرغم من ما يبدو من مرونة في الموقف الأمريكي.