منذ أربع أو خمس سنوات وجدت خريطة معلقة على جدار غرفة ابني، خريطة للعالم باللونين الأبيض والأسود، لكنه ليس العالم الذي نعرفه، مكون فقط من قارتين، مقسمتين إلى سبع ممالك كما أخبرني ابني فيما بعد، كانت الخريطة تأكيدا على أن الأمر يبدو حقيقيا، وأن عالم الخيال قد رسم حدوده على أرض الواقع، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع بها باسم مسلسل Game of Thrones أو صراع العروش الذي يتابعه مليارات البشر حول العالم منذ سنوات، وحصل ابني على الخريطة كهدية ترسلها شركات الدعاية، وحرص بدوره على أن تظل أمامه عندما تحين لحظة إذاعة المسلسل، وهكذا دخلت معه في إدمان "صراع العروش" ومشاهدة كل حلقاته القديمة أكثر من مرة، ونحن الآن في انتظار الحلقة السابعة من الموسم السابع، أي أننا نتابعه من سبع سنوات تقريبا، ونعيش مع أحداثه لمدة عشر حلقات، واحدة كل أسبوع، ثم نبقى في انتظاره بعد ذلك طوال العام. إنه مجرد مسلسل خيالي يدور في أرض خيالية، ولكنه أكثر إبهارًا من الحقيقة، يجسد الصراعات التي لا تريد أن تهدأ في عالمنا من خلال صراع الممالك السبع حول العرش الحديدي، المكون من رماح متداخلة، وقد علقت عليه ملكة إنجلترا حين زارت موقع التصوير في أسكتلندا: "هذا هو العرش الوحيد الذي لا أستطيع الجلوس عليه"، وكالعادة هناك ملك غير شرعي يجلس عليه، ويتصارع حوله أكثر من مطالب، جيوش يعادي بعضها بعضا دون أصدقاء، وليس هذا غريبا على الجنس البشري الذي لم يسد السلام بين أجناسه إلا لمدة 150 عاما فقط، صراع واقعي رغم مادته التي تعتمد على الخيال، حيث لا يوجد آلهة ولا أنبياء، يدور بدافع من غريزة الحياة، عدوهم الرئيسي هو الموت، وهم يعرفون أنه سينتصر عليهم في نهاية الأمر، ولكن يجب أن يحاربوه. المسلسل مأخوذ عن سلسلة روائية من سبعة أجزاء بعنوان "أغنية الثلج والدم" للكاتب جورج.ر.مارتن، بني وقائعها على حرب فعلية حدثت في إنجلترا في القرن الخامس عشر، واحدة من أطول الحروب التي شهدها التاريخ واستمرت لمدة ثلاثين عاما دون أن تحسم حول من هو أحق بعرش إنجلترا، أطلق عليها شكسبير في مسرحياته حرب الوردتين، وتنافست فيها عائلتان من النبلاء ملاك الإقطاعيات الكبرى، وكل واحدة منها تمتلك جيشها الخاص، عائلة لانكستر وشعارها الوردة الحمراء، وعائلة يورك وشعارها الوردة البيضاء، كل أسرة تعتقد أنها الوريث الشرعي للملك هنري الأول الذي مات دون أن يخلف وريثا ذكرا، اشترك فيها كل النبلاء دون نبل، دوقات وبارونات وايرلات وفرسان، والعديد من عبيد ملاك الأرض، وأرتال من الجنود المرتزقة، يرتدون الدروع الحديدية ويعيثون فسادا في القرى، ونساء طامحات، يقمن بالتحريض من خلف الستر ومن فوق الأسرة، يحبكن المؤتمرات ويستغللن أجسادهن كلما أمكن، وقفزت واحدة منهن على العرش لتصبح ملكة لفترة من الزمن، حربا لا يعرف أحد نهايتها، حدثت فيها كل أنواع الخيانات وانقلاب الأصدقاء والاستعانة بالغزاة الأجانب، ولكنها انتهت أخيرا بانتصار أسرة لانكستر، وأزيلت أسرة يورك من الحكم، وتزوج الملك هنري السابع آخر الملوك المتصارعين من إحدى سيدات البيت المنافس. تحولت سباعية "أغنية من ثلج ونار" إلى صراع العروش كما ظهرت على شاشة التليفزيون، واشترط ر.مارتن أن يقوم بنفسه بكتابة الحلقة الأولى في كل موسم ليرسم الخط الأساسي لبقية المؤلفين، بالإضافة إلى توليه مركز المنتج المنفذ ليضمن توفر الإمكانيات الفنية، وعندما اجتمع معه المسئولون عن شركة الإنتاج سألوه سؤالا واحدا: ما مصير جون سنو؟ وعندما عرفوا الجواب قاموا على الفور بتوقيع العقد، وحتى الآن نحن لا نعرف الجواب، لأن المسلسل لم يحسم بعد، كما أن الجزء السابع من الرواية لم يتم تأليفه، فهو ليس إلا مجرد أفكار في ذهن المؤلف، ولأن الإنتاج التليفزيوني لا يحتمل التأجيل فقد عقد المؤلف اجتماعا مع بقية كتاب المسلسل وشرح لهم أفكاره، وقاموا هم بكتابة الحلقات على هذا الأساس، ولكن بعد ذلك هل سيستطيع المؤلف أن يجلس ليكتب هذا الجزء السابع بعد أن أفرغ شحنته وكشف أوراق لعبته.. لا أعتقد!! جون سنو هو شخصية محورية في أجزاء الرواية ويربط بينها بطرف خفي، إنه الابن غير الشرعي لحاكم الشمال، المملكة التي تغطيها الثلوج دائما، مكروه من زوجة الملك التي تسهم في إبعاده عن بيته وعن بقية إخوته الشرعيين، ليذهب للدفاع عن الجزء الأصعب في المملكة، السور الذي يفصل بينهم وبين جيوش الموتى، يذكرنا بالسور الذي أقامته إسرائيل لتحاصر به غزة، الفارق أن المحاصرين على أرض الواقع ليسوا موتى ولكنهم أصحاب الأرض والحق والتاريخ، غير أنهم مغلوبون على أمرهم، من على حافة السور يراقب جون سنو عالم الرعب المخفي وسط الثلوج، ولكن العالم من خلفه لا يقل رعبا، فأسرته كلها تتعرض للذبح، ولا يبقى إلا هو وأختان وأخ كسيح، والرواية مثلها كالتاريخ مليئة بالمذابح، ويخالف المؤلف دائما كل التوقعات، فلا يوجد عزيز، كل الشخصيات عنده قابلة للموت، لأن هذه طبيعة الأمور في عالم لا تتوقف فيه المعارك، وهو ينتقد كل الروايات التقليدية التي تحتفظ بشخصياتها من أول الرواية إلى آخرها وتبعد عنهم مصيرهم المحتوم، ويساعده هذا على أن يدخل إلى رواياته باستمرار شخصيات جديدة نضرة تساعده في المضي بعملية السرد. تمتلك العرش الحديدي سيرسي الملكة الداهية، القاسية الجمال، نقطة ضعفها هي حبها للسلطة وشهوتها لأخيها، وهي تنجب منه أولادا محكومين بلعنة الموت المبكر، ولا تكره شيئا بقدر كراهيتها لأخيها القزم الذي تعتبره أحد أخطاء الطبيعة وأنه سبب كل المصائب التي تحل بها، وبعد أحداث كثيرة يتبلور الصراع بينها وبين امرأة أخرى تقف في مواجهتها هي دينريس آخر سلالة الملوك الشرعيين، وهي تملك سلاحا ضارية هو التنانين، أشبه بالطائرات التي تحرق اليوم عالمنا بالنابالم، مبالغة أخرى في الخيال تبدو منطقية وسط الإطار الخيالي للمسلسل. التفاصيل كثيرة ومليئة بالمتعة، يسهم في تجسيدها التصوير والاستخدام الجيد للجرافيك، ولكن قبل النهاية وجب أن نحيي الأستاذ هشام فهمي الذي تصدى لترجمة هذه السلسلة للعربية في عمل ممتاز، وقد خاض معركة طويلة للحصول على حقوق الترجمة، وقام بالفعل بنشر الجزء الأول منه منذ عامين وأتمنى أن يكون قد استكمل مشروعه وترجم بقية الأجزاء.