لم يكن الحكم الذى صدر بالحبس لثلاث سنوات فى إبريل من عام 2014 بحق أحمد ماهر مؤسس حركة السادس من إبريل هو البداية، فالمهندس ذو السبعة والثلاثين عاما دخل السجن فى ديسمبر من عام 2013 مع زميليه محمد عادل وأحمد دومة. خرج ماهر من محبسه مطلع هذا العام، لكن لم تنته تجربة السجن، فالحكم بحقه شمل كذلك فترة مراقبة مساوية لما قضاه فى السجن. تنص المادة الثامنة والعشرون من قانون العقوبات على أن كل من يحكم عليه بالأشغال الشاقة أو السجن لجناية مخلة بالأمن أو السرقة بالإكراه يجب وضعه بعد انقضاء مدة عقوبته تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة عقوبته. أثار استدعاء العقوبة، التى تستخدم مع حالات جنائية خطرة تحفظات المنظمات الحقوقية، إضافة إلى أن كثيرين ممن طبقت السلطات تدابير احترازية بحقهم بعد الخروج من السجن عادت وخففتها. إلا أن حالة ماهر وزميله محمد عادل مختلفة. فالاثنان فى انتظار العودة إلى حياة طبيعية بعد أن تخفف هذه الإجراءات القاسية. منذ خروجه من سجن طرة إلى منزله يتوجه ماهر عند السادسة من كل يوم، ويبقى داخل قسم الشرطة حتى السادسة من صباح اليوم التالى. هذه كلماته بعد قضاء ليلة من هذه الليالى: لم أتعامل مع الأمر بجدية فى البداية. كان الحكم نفسه مفاجئا، وتولد لدينا شعور لا سبب له سوى الأمل، فى أن كل هذا لن يستمر. إلى أن مر العام الأول، وتأكدنا أن ما نحن فيه سيطول. كان دومة أول من نبهنى إلى المراقبة حين قال إنها تخيفه أكثر من السجن. ففيها الكثير من المهانة. قلت: مستحيل. إلى أن اقترب خروجى من السجن، وبدأت أنتبه للواقع. سألت الضباط فردوا بحسم أنها ستنفذ. حكم محكمة ونحن ملزمون بتطبيق القانون. بلغة السجون كانوا "مخطرينا". الإجراءات مراعاة بدقة. الكثير من الممنوعات. تعامل جاف رغم تطمينات متكررة أن الأمور ستتحسن. فى اليوم الأول خارج السجن انهالت على اتصالات التهانى. معظمها كان يبارك لى عودتى أخيرًا إلى بيتى، لكن كل ما كان يشغلنى هو الليلة الأولى التى سأقضيها فى قسم الشرطة. فى الليلة الأولى توجهت إلى القسم، متمنيا أن يكون الأمر سهلًا، ويمضى سريعًا، لكنه لم يكن كذلك. لم يكن القسم مستعدًا لوجودى. فتركونى فى ساحة واسعة إلى أن يجدوا لى مكانا. عشرات الموجودين للمراقبة، ولكن فى قضايا سرقة بالإكراه وبلطجة وشروع فى القتل، فصلونى عن زنزانتهم. لكنى انضممت إليهم مؤخرًا، لكن حينها تركونى فى مكان واسع فى المدخل. على أن أستأذن قبل الدخول إلى الحمام. كان مسموحا لى باستخدام التليفون لكنهم منعوه بعد ذلك، وبعدها وفروا لى غرفة تحت السلم، وسمحوا لى أن أحضر مرتبة، لكنهم رفضوا أن أستخدم الكهرباء، وخصصوا لى جنديًا يقف خارج الغرفة. لا أخرج ولا أتحرك للحمام أو البوفيه إلا بإذنه. كل الامتيازات رهن تدخلات لا أعرف أسبابها. أى تطور فى الخارج يعنى خطر سحبها منك فى أى لحظة. بيان من الحركة، أزمة سياسية أو هجوم إرهابى أو قضية كتيران وصنافير تعنى تنكيلا أو تكديرا لى. استقر الأمر على أن أبيت ليلتى فى غرفة ضيقة أسفل السلم. سمحوا لى لاحقا بأن أضع فيها مرتبة لكنهم رفضوا مجددا استخدام الكهرباء أو اصطحاب هاتفى المحمول أو جهاز كمبيوتر، ولفترة طويلة كان جندى يقف على باب الغرفة ليلازمنى إن توجهت إلى الحمام أو البوفيه. أعمل مهندسا وكنت أتمنى أن أجد فرصة عمل، لكن المتاح كان يقتضى أن أعمل على اللابتوب من المنزل -قسم الشرطة فى حياتى الجديدة- أن سمحوا لى بذلك. ولكنهم رفضوا. ثم جربوا الأمر لشهر واحد سمحوا لى فيه باستخدام جهاز الكمبيوتر فى عملى الهندسى، مع تفتيش دورى للتأكد من عدم وجود وسيلة اتصال بالإنترنت أو ذاكرة إضافية. منعوا ذلك لاحقًا ما ضر عملى بشكل بالغ. لأن نصف اليوم لا يكفى للعمل ووالدتى وأصدقائى وحياتى العائلية. والدتى فى مرحلة متقدمة من الإصابة بمرض السرطان ما يقتضى زيارتها والبقاء معها لساعات بشكل يومى. خلال شهر رمضان ساءت حالتها واشتد ألمها وأنا بصحبتها فى المستشفى، فتأخرت عن الحضور إلى القسم لنحو ربع ساعة. حرروا لى قضية هروب، وحولت إلى محكمة الجنح وأنا الآن فى انتظار أولى الجلسات. حين أخبرت ضابط القسم بمرضها قال لى: وأنا مالى؟! فيه قانون. قتلًا للوقت فى أيام السجن الأولى تقدمت لدراسات عليا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، انتهيت من الدبلومة الأولى قبل الخروج، وفى بداية فترة المراقبة طلبت السماح لى بالحضور. رفضوا فى البداية لكنهم سمحوا لى لاحقًا بيومين فقط أحضر فيهما ساعة وأعود للمنزل على أن تمر علىّ قوة من المباحث مرتين الأولى عند العاشرة مساء والأخيرة عند الواحدة صباحًا. لك أن تتخيل مشهد استيقاظ أطفالى فى هذين اليومين على الصوت. نوافذ العمارات القريبة تفتح كل مرة لتكتشف ما الذى يحدث. الجيران جميعا عرفوا قصتى، ومنهم من صار يتحاشانى بعدها. ابنتى الكبرى عمرها تسع سنوات، على دراية بما يجرى وأحكى لها أولًا بأول، بينما أخوها فى السنة الثالثة من عمره، وكان يعتقد أننى سافرت للعمل، وهو نفس العمل الذى أذهب إليه كل ليلة. الآن كثرت أسئلته وأحاول تبسيط المسألة له. أمضى ليلتى الآن فى غرفة أشبه بالزنزانة. أبواب ونوافذ حديدية وأرض أسمنتية مليئة بالحشرات، تعاوننا مؤخرًا لتنظيفها لكى نستطيع النوم. أفكر كل ليلة فى أن أحلامى خلال سنوات السجن الثلاث كانت فى أن أخرج لأعوض نفسى وأهلى عما فات. نذهب للبحر، نحضر حفلة. أقضى الليل إلى جوار سرير والدتى. أشاهد فيلمًا فى السينما مع زوجتى، أو نجلس أمام التليفزيون ليلا ثم أحكى لابنتى قصة قبل النوم. لم أكن أتخيل يومًا أن هذه الأفعال سوف تصبح أحلامًا بعيدة المنال. لكنى أتراجع عن أحلامى حين أتذكر كثيرين محرومين مما هو أبسط وأسهل، ولكن رغم نصف الحياة التى أعيشها أعود وأفكر فى من تحتاج حياتهم أقل مما حصلت عليه. أتمنى لهم حرية أكثر اكتمالا، وأشعر بالعجز كلما تذكرت من طالت إقامته فى الداخل، وأحاول قدر ما استطعت أن أحكى حكايتهم. حتى ما أنا فيه مهدد بالحرمان منه فى أى لحظة. لذا صرت أكثر حذرًا فى الكتابة، لم يكن هذا يحدث داخل السجن. كنت بالطبع أجد صعوبة فى خروج المقالات للنشر، لكنى الآن أتحسس خطواتى كى لا أعود..