أثناء ترتيب بعض أوراقي وكتبي، عثرت على هذا النص، وهو الخطاب الذي دعيت لإلقائه في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي الذي عُقد في أوسلو في بداية الألفية الجديدة، حول دور الدين في الوقاية من النزاعات في أوروبا. لم تكن الصفة التي دعيت باسمها رسمية، وإنما كخبير ضمن ثلاثة خبراء في الشأن الديني، والاثنان الآخران من أوروبا، وذلك بدعوة من وزيرة خارجية النرويج، ورشحني للتحدث كخبير في سوسيولوجيا الأديان، سكرتير لجنة نوبل للسلام الذي تقابلت معه في روما ذات مرة، وتحدثنا طويلاً في عشاء جماعي بدعوة من الفاتيكان لضيوف جمعية سانت إيجيديو الإيطالية ذائعة الصيت التي وصفت دورها آنذاك في مقال بالأهرام بأنها الفاعل غير الحكومي في النظام الدولي للدور الذي تقوم به في حل بعض النزاعات الدولية، وبوصفها أحد مطابخ الإعداد لبعض السياسات والقرارات الدولية الهامة. امتد حواري مع سكرتير لجنة نوبل للسلام آنذاك حول الجائزة، وأشرت إلى ضرورة إعطائها إلى بعض الناشطات من النساء لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، واستعدنا الحوار على الإفطار صباح اليوم التالي، ثم بعد محاضرته التي تقدم بها مع أجناسيو رامونيه رئيس تحرير اللوموند ديبلوماتيك، وجاك دانيل الصحفي الفرنسي الكبير. وكان من حسن الطالع أن أعطيت الجائزة لناشطة ومحامية إيرانية. هذا الخطاب كان بالإنجليزية، وكان مخصصًا للخبراء الثلاثة أمام بعض وزراء الخارجية الأوروبيين والسفراء سبع دقائق، إلا أن وزيرة الخارجية النرويجية بعد الخمس دقائق الأولى من سبع دقائق محددة لكل خبير متحدث من الثلاثة، قالت لي up to 10 minutes وقد أخذ المؤتمر في توصياته ببعض اقتراحاتي وأهمها إنشاء مراكز إنذار مبكر. أردت نشر هذا الخطاب، كجزء من ذاكرة باحث مصري. إلى الخطاب: سيدي الرئيس السادة الوزراء والسفراء السيدات والسادة الدين وتجنب الصراعات في عالم ما بعد الحرب الباردة تزايد دور الدين وحضوره في الصراعات الدولية، والداخلية، حيث أدى تفكك الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشيوعية إلى بروز أسئلة الهوية لدول جديدة، وأسئلة المعنى للنظام العالمي تحت التشكيل، وفي المجتمعات المنقسمة كانت ولا تزال أسئلة الهوية المعقدة تتداخل مع استدعاء الثقافة ومعها الدين كاستراتيجية في بناء الهوية لدول وجماعات قومية وعرقية ودينية. قامت نخب سياسية وثقافية وعرقية بتوظيف الدين والتراث الديني – الثقافي في تحديد "النحن" إزاء "الآخرين" وأدى ذلك إلى تزايد أدوار ونفوذ المؤسسات الدينية وقياداتها في العلاقات الدولية ونزاعاتها، ووزنهم في هياكل القوة الداخلية. في عقد التسعينيات حدث انفجار هائل للهويات ونزاعات حولها في إطار تحولات كونية، وكان الدين أبرز أدوات صياغة وتحديد هذه الهويات، وتم إنتاج وإعادة إنتاج أنماط من العنف الرمزي الديني والثقافي من أجل تعزيز وتأكيد هوية إزاء هويات أخرى داخل الدولة القومية المأزومة، أو في إطارات إقليمية أوسع استخدمت النخب السياسية والدينية، الدين والمذهب والثقافة الدينية في إعادة بناء الذاكرة وترميمها بعد تفكك الكيانات الكبرى. وازدادت حدة سوء استخدام الدين في النزاعات الدولية بديلاً عن الدور السابق للأيديولوجية في صياغة التحالفات الدولية والأصدقاء والأعداء في الحرب الباردة. ومن أبرز هذه الأمثلة الصراع في البوسنة، وكوسوفو، والشيشان... إلخ، إن خطورة توظيف الدين في النزاعات الدولية تتمثل في إضفاء القداسة على الصراعات حول المصالح وبين الثقافات. ساهمت أيضًا زعامات سياسية في عديد من دول العالم في سوء استخدام الدين في إضفاء الشرعية على مواقفها السياسية، وفي تبرير قرارات الحروب، وفي خطابات العداء والعنف الرمزي، في الشرق الأوسط كان توظيف الدين واسعًا في الصراع العربي- الإسرائيلي من أطراف الصراع كافة، في التعبئة والتبرير في الخطابين السياسي والإعلامي وفي تغذية مشاعر العداء. واستخدام الدين في النزاعات الداخلية سواء كسبب للنزاع أو تبرير لها، أو في بناء الهويات المتنازعة في المجتمعات الشرق أوسطية الممزقة على أسس مذهبية، وعرقية على سبيل المثال في لبنان، والعراق، والسودان، والجزائر، ووظفت النخب السياسية والمعارضة الدين في الصراعات الداخلية، وفي التلاعب بمسألة الهوية، ومثالها لبنان، ومصر، والسودان، والعراق، وتركيا. الدين شكل عامل تمايز ثقافي داخل المجتمعات الأوروبية على المستوى الرمزي والقيمي إزاء النظام الثقافي والقيمي الأوروبي العلماني، إن صناعة الكراهية أصبحت تعتمد على التلاعب السلبي وسوء استخدام القيم الدينية، والتأويلات المحافظة والسلبية للنصوص الدينية إزاء الآخرين، وكأقنعة لإخفاء صراعات المصالح والأعراف والثقافات بين الدول والجماعات القومية والعرقية. إن الصراع بالثقافة والدين كأدوات رمزية يشكل أبرز علامات التحول نحو الكوكبية، وبعيدًا عن تناقضات انهيارات ما بعد الحرب الباردة. حيث تزايد تداخل الدين مع القومية، والطائفية في إنتاج النزاعات وتحويلها عن مصادرها الأساسية، بل إن كل تحديد ل"النحن الدينية" تمثل عنفًا رمزيا إزاء "الآخرين" الذين ينتمون لدين آخر أو مذهب آخر، وفي لعب دور الحشد الداخلي لأبناء دين على أبناء الأديان الأخرى والتحريض. ولعب أيضًا دور مولد الدعم الدولي من أبناء ذات الدين، ومثال ذلك الأممية الإسلامية الراديكالية المتشددة. إن الدين لا يزال أيضًا يلعب بعض الأدوار الإيجابية من خلال المؤسسات الدينية في مجال الإغاثة الدولية، وفي مواقع النزاعات، وهناك جماعات Ngo's دينية لعبت دورًا في محاولة حل بعض المنازعات الدولية ومثالها جماعة سانت إيجيديو St- Egidio الإيطالية التي تمثل مثالاً جديدًا لدور الNgo's كفاعل في العلاقات الدولية، حيث ساهمت بدور مؤثر في حل النزاعات في موزمبيق، وجواتيمالا وحاولت ذلك في الجزائر، وكوسوفو فضلاً عن أعمالها الأخرى في المجال الإنساني في ألبانيا وبين المهاجرين في إيطاليا. إن الأديان السماوية وغير السماوية تنطوي على قيم إنسانية مشتركة كاحترام الحياة، والتسامح، والمساواة والعدالة، واحترام الحقيقة، والتضامن، إلا أن هناك تراثا تاريخيا من التأويلات الدينية واللاهوتية تشكل في بعض الثقافات الدينية عائقًا في مجال النظرة للآخر الديني، والعلماني واللا ديني. ومدخلنا إلى حياة كوكبية جديدة تحترم حقوق الإنسان والتعددية الثقافية، تبدأ بالبحث عن الثقافة والحياة المشتركة داخل كافة المجتمعات وفيما بين بعضها بعضًا. هنا يتعين علينا أن نبحث عن آليات للعمل المشترك. أشير هنا سريعًا إلى ما يلي: أولاً: إجراءات بناء الثقافة بين الأديان المختلفة: 1- على الجمعيات غير الحكومية العاملة في الحقل الديني الدعوة إلى ميثاق أخلاقي كوني تلتزم به في أداء أنشطتها تقوم على المشترك القيمي الإنساني، وتحترم عقائد بعضها بعضًا. 2- ضرورة احترام أديان وعقائد المجموعات المتميزة والصغيرة. 3- السعي لكي تصدر الأممالمتحدة بيانا للتسامح التاريخي بين ممثلي الأديان المختلفة يتضمن اعتراف بعضها ببعض، والتزامها بالقيم الإنسانية المشتركة. 4- الدعوة لتشكيل منتدى دولي – غير حكومي – للحوار بين الأديان حول القيم والأخلاقيات المشتركة بين الأديان والثقافات. 5- مطالبة الأممالمتحدة الدول الأعضاء بتدريس مواد خاصة بالأديان والأقليات على اختلافها بموضوعية وإيجابية في مناهج التعليم المختلفة بالمدارس والجامعات. 6- وضع ميثاق شرف تلتزم به الحكومات والمؤسسات الدينية ومستخدمي الوسائط الحديثة "الإنترنت"، والإعلام السمعي والمرئي والمكتوب، إلى الالتزام بتقديم الصور الصحيحة والإيجابية عن الأديان المختلفة، وقيمها المشتركة. 7- الدعوة إلى مراجعة مناهج الدراسة وحذف الصور العدائية إزاء الأديان بعضها بعضًا، ويرافق ذلك ورش عمل، وبرامج تدريبية للمعلمين والمعلمات ومديري المدارس والعاملين في حقل التربية والتعليم. 8- إنشاء معهد دولي للأديان المقارنة على أسس ثقافية وسوسيولوجية. 9- تشجيع المؤسسات الدينية الكبرى على التحاور لصياغة بيان يسمى بيان الألفية للتعايش الديني المشترك ونبذ النزاعات الدينية والطائفية بين أبناء الأديان المختلفة. ثانيًا: نظام للإنذار المبكر: اقترح الرئيس الألماني هيرتزوج في مبادرته للحوار بين العالم الإسلامي والغرب إنشاء نظام للإنذار المبكر إزاء أي حملة ضد الثقافات، وبناءً على هذا الاقتراح الهام، يمكن إنشاء نظام للإنذار المبكر إزاء الحملات الدينية والمذهبية الصراعات الدولية أو المجتمعية. ويمكن أن يتشكل ذلك عن طريق: 1- نظم إنذار مبكر إقليمية تتولى دراسة وتحليل توظيف الأديان في الصراعات السياسية والثقافية الإقليمية، والنزاعات الداخلية في دول ومجتمعات الأقاليم المختلفة في العالم. عن طريق التشجيع على إصدار تقارير بحثية إقليمية حول الأديان – مثال: تقرير الحالة الدينية في مصر الذي يصدره مركز الدراسات السياسية بالأهرام. 2- العمل على تشكيل لجنة دولية محايدة تعمل على إصدار تقرير عالمي عن وضع الأديان والأقليات الدينية في مختلف أقاليم العالم، ومناطق التوتر الديني ونزاعاتها وأسبابها، وتقترح آليات للعمل المشترك بين الأديان والمذاهب في كوكبنا المشترك.