مين اللى صنع تمثال نهضة مصر؟ إذا كنا فى برنامج «من سيربح المليون»، والسؤال اتسأل لواحد من المشاركين الشطار، كان أكيد هيرد «محمود مختار» بدون أدنى شك ولا أدنى تفكير، والمذيع كان هيبارك له، والجمهور كان هيهلل له، وكان هيبقى سعيد من نفسه لأنه عرف الإجابة. إنما السؤال ده محتاج تفكير فى الواقع، لأن صناعة التمثال مش ممكن تقتصر على شخصية الصانع وبس. حسب عالم الاجتماع الأمريكى هاورد بيكر، الصانع ده جزء من عالم سياسى واقتصادى واجتماعى وجمالى أوسع، وهو ده ببساطة «عالم الفن». فى كتاب عنوانه «عوالم الفن»، بيكر انتقد الرؤية المنتشرة اللى بتعتبر إن الفن عبارة عن فنان بيصنع عملا فنيا وخلاص. فى الرؤية دي، كل اللى الواحد محتاج يعرفه هو مين الفنان العبقرى اللى صنع الفن العبقرى ده وبأى طريقة، وبعدين ناس دكاترة هيكتبوا عنه وعن فنه عشان يساعدوا معدي برنامج «من سيربح المليون» فى إنهم يخترعوا أسئلتهم. تاريخ الفن بالمنطق ده مالوش قيمة إلا كنوع من الثقافة العامة، ولذلك الواحد مابيبقاش فاهم الفن بيتصنع إزاى أصلا. حسب بيكر، لا يمكن فهم الفن بالطريقة المختزلة دى لأن الفن والفنان جزء من عالم أوسع. العالم ده مش مجرد المناخ الاجتماعى اللى اتولد فيه الفنان، وإزاى علاقته بأمه وأبيه أثّرت فى إدراكه للكون، ولا هو مجرد مناخ سياسى، وإزاى الثورة والحياة أثّروا فى الفنان، إنما هو عبارة عن جميع العوامل اللى بتأثر فى شغلانة الفن نفسها. أهمية بيكر إنه من أوائل الناس اللى تتكلم عن الفن بصفته شغلانة زى أى شغلانة، بتحتاج لمجهود معين وأدوات معينة وعرف معين، وفى الآخر مانقدرش نوصف الشغلانة فقط كممارسة خاصة بشوية فنانين. إذا رجعنا لتمثال نهضة مصر، نقدر نقول إنه بالإضافة لشغل محمود مختار الفردي، لازم المثال يلاقى الخامة اللى هيصنع منها التمثال (اللى هو حجر الجرانيت اللى بيتحفر فى المحجرة وبيتنظف وبيتوصل لورشة الفنان)، ولازم يلاقى الأدوات اللى هينحت بيها الخامة (يعنى أدوات تكسير الحجر وتشكيله وتنعيمه)، ولازم يلاقى التمويل اللى هيسمح له بالنحت (اللى جزء منه كان جاى من الدولة)، ولازم يلاقى مساعدين يساعدوه فى الورشة (إن لم يكن فى النحت يبقى فى إدارة الورشة وتحضير الخامات والأدوات)، ولازم يفكّر فى جماليات التمثال نفسه (وطبعا تأثير النحت الفرعونى والفن الناصرى واضحين عند مختار). كل العوامل دى أثّرت فى تمثال نهضة مصر، ومحمود مختار لا يمكن كان هيقدر ينحت التمثال اللى نحته من غيرها. ده مايقللش من شطارة مختار، إنما بيوضح إزاى العمل الفنى لا يمكن يبقى منفردا، وإنه دايما جزء من عالم كامل شغّال وراء الستارة عشان الفنان يقدر يصنع فنه. اللى بيحفر الجرانيت واللى بيبيع الأدوات واللى بيموّل الفنان واللى بيساعده فى الورشة أجزاء لا تتجزأ من العالم ده، وطبعا ده عالم موجود فى الفنون الجماعية (زى المسرح والموسيقى والسينما) زى ما هو موجود فى الفنون الفردية (زى الكتابة والرسم والنحت). حتى لما الفنان بيشتغل لوحده، لازم يبقى عالم الفن وراه عشان يقدر ينتج فنه. يعنى اللى صنع تمثال نهضة مصر مش محمود مختار وبس، دى تقريبا مصر بحالها اللى ساعدته فى صناعة التمثال، وده درس لازم ناخده فى الفن وفى السياسة، لأن ماحدش يقدر يقوم لوحده بأى شغلانة.