لا تزال القضية الفلسطينية تُثير قلق الكثيرين من مؤيديها الذين يرغبون في الحصول على حقوقهم باسترداد أرضهم كاملة التي اغتصبتها إسرائيل بتوصية من بريطانيا وخاصة جيمس بلفور منذ عام 1917. وعلى الرغم من مرور نحو 100 عام على التوصية الشهيرة المعروفة إعلاميًا ب"وعد بلفور"، لكن يبدو أن بريطانيا قد تعتذر عن ذلك الوعد بعد المطالبات الشعبية. فقد دعا مجلس العموم البريطاني، في مذكرة سلمها إلى رئيسة الحكومة، تيريزا ماي، أمس الخميس، لسرعة الرد على حملة دولية أطلقها "مركز العودة الفلسطيني" في لندن، لمطالبة الحكومة البريطانية بالاعتذار رسميًا عن وعد "بلفور". وتأتي دعوة مجلس العموم بعد أن تجاوز مؤشر التواقيع على العريضة الإلكترونية للحملة حاجز العشرة آلاف توقيع، وهو العدد المطلوب رسميًا بحسب القانون البريطاني لإلزام الحكومة بالردّ عليها. ماهو "وعد بفور" "وعد بلفور" هو الاسم الشائع الذي أطلق على الرسالة التي أرسلها وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور في الثاني من نوفمبر 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، وقال فيها إن "الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وإنها ستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية". دوافعه وأسبابه اختلفت التفسيرات والدوافع وراء هذا الوعد، فبلفور نفسه برره بأنه بدافع إنساني، في حين رأت فيه مصادر إسرائيلية تاريخية مكافأة للباحث حاييم وايزمان لخدمته بريطانيا باكتشافات علمية أثناء الحرب العالمية الأولى. رفض عربي ويرفض باحثون عرب هذه التفسيرات استنادًا إلى أحداث وقراءات تاريخية مفادها أن بلفور "لم يكن يفكر في مأساة اليهود الإنسانية"، بل على العكس من ذلك فقد رفض التدخل لدى الروس لمنعهم من "اضطهاد اليهود"، كما أن مساهمة اليهود في دعم بريطانيا في الحرب "كانت محدودة ومقتصرة على بعض اليهود غير الصهاينة". أمّا لويد جورج الذي أصدرت حكومته الوعد، فقد برر القرار في كتابه الحقيقة حول معاهدات الصلح بعدة عوامل، منها ما يفيد بأنه كان هناك سباق مع ألمانيا حول كسب اليهود إلى جانبهم. ورأت بعض الصحف البريطانية حينها في وعد بلفور، إيجادًا لقاعدة صهيونية في فلسطين لحماية مصالح بريطانيا في المنطقة، فضلًا عن مد نفوذها الإمبراطوري إلى هناك. ردود دولية كانت ردود الفعل الدولية عقب صدور الوعد مُفعمة بالتأييد، خاصة من الدول الكبرى المؤثرة في ذلك الوقت، وأيّدت كل من فرنسا وإيطاليا وأمريكا الوعد لاستبدال اليد العليا العربية في فلسطين باليد العليا لليهود، بطريقة تسمح للبعض بالقول إن وعد بلفور كان وعدا غربيًا وليس بريطانيًا فحسب، فقد أصدر الكونجرس الأمريكي قرارًا عام 1922، أيّد فيه وعد بلفور بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وفي 11 ديسمبر1917 أي بعد أسابيع فقط من الوعد، دخلت الجيوش البريطانية بقيادة الجنرال ألنبي القدس، الذي قال عبارته الشهيرة: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، وفي مؤتمر فرساي يناير 1919 قدمت الحركة الصهيونية خطة تنفيذ مشروع استيطان فلسطين، ودعت إلى إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد بلفور، وأن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء سيناء المصرية. أما عام 1918، صادق الرئيس الأمريكي (ولسون) رسميًا على وعد (بلفور) وقال: "أغتنم الفرصة لأعبر عن الارتياح الذي أحسست به نتيجة تقدم الحركة الصهيونية في الولاياتالمتحدة والدول الحليفة منذ إعلان السيد بلفور باسم حكومته عن موافقتها على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ووعده بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف". في حين صدر إعلان الانتداب على فلسطين في مؤتمر "سان ريمو" 31 مايو 1920، وعُين البريطاني الصهيوني "هربرت صموئيل" مندوبًا ساميًا في القدس، وكان وزيرًا للداخلية البريطانية ومتعاطفًا مع الصهاينة، وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا عن مضمون وعد بلفور، واحتج الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة بين الحرس البريطاني والعرب.
وفي 27 يناير 1919، عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول، وقرر رفض تقسيم الشام إلى دويلات، مع اعتبار فلسطين جزء من بلاد الشام وليست دولة مستقلة، كما شكَّل حكومة وطنية فلسطينية، وفي 2 فبراير 1919 عقد "مؤتمر الصلح" في باريس حيث تخلى الشريف حسين عن فلسطين مقابل إعطائه دولة على الأرض العربية، و وافق على اعتبار فلسطين تحت وضع دولي وليس بالضرورة أن تكون تابعة للدولة العربية الجديدة، وهكذا تم أول تنازل عربي رسمي عن أرض فلسطين. بعد ذلك وجَّه "فيصل بن الحسين" رسالة إلى الزعيم الصهيوني الأمريكي "فرانك فورتر" يقول فيها: "نحن العرب وخاصة المثقفين منا ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، وسوف نعمل كل ما بوسعنا لمساعدة اليهود، ونتمنى لهم وطنا ينزلون فيه على الرحب والسعة". ثورة فلسطينية ولكن الفلسطينيين أصحاب الأرض لم يقبلوا بهذا الوعد، وقاموا بعدة ثورات للقضاء على اليهود، ومازالوا إلى الآن يقدِّمون أرواحهم فداءً للمحافظة على الأرض الفلسطينيّة، وأدركوا ما يُدبر ضدهم، فرأوا بلادهم مفتوحة الآبواب لليهود، فقاموا عام 1920 بمظاهرات عنيفة لتعبير عن سخطهم على السياسة البريطانية و أطماع اليهود. ولعلّ ذلك يستدعي استذكار ما قامت به " إسرائيل" منذ تأسيسها خارج ما يسمّى ب"الشرعية الدولية" وبالضد من قواعد القانون الدّولي والقانون الإنساني الدّولي، وبشكل خاص تجاوزًا للقرار 181 (عام 1947) الذي تأسّس وفقًا له باحتلالها كامل فلسطين لاحقًا، إلى جانب أراض عربية أخرى، وعدوانها المتكرّر على الأمّة العربية. البرلمان البريطاني قد يساند الاعتذار وقال تشارلي فراي، عضو مجلس العموم البريطاني عن الحزب الاشتراكي البريطاني المعارض: إن "لجنة المتابعة بمجلس العموم البريطاني أعدّت مذكرة رسمية أوضحت فيها أن أكثر من عشرة آلاف مواطن بريطاني وقعَّوا على عريضة إلكترونية أُطلِقت في بداية شهر أكتوبر الماضي تطالب الحكومة البريطانية بالاعتذار على وعد بلفور. وأضاف "فراي" أنه بوصول عدد المصوّتين للحد المنصوص عليه في القانون البريطاني، باتت الحكومة ملزمة بالرد خلال موعد مدته 3 أيام - يستثني منها العطلات الرسمية - تُوضِح فيه موقفها من مطالب الحملة التي تتلخص في "تقديم اعتذار للشعب الفلسطيني عن مسؤوليتها التاريخية، عن وعد بلفور وما ترتب عليه من معاناة للفلسطينيين". وأكد أن العريضة أخذت منحنى شعبيًا، يُلزم الحكومة البريطانية بالتعامل معه على محمل الجد، خاصة أن التواقيع في تزايد، حيث بدا واضحًا وجود تحوّل كبير في الرأي العام البريطاني تجاه القضية الفلسطينية. وتابع عضو العموم البريطاني: "هذا ما يجب أن تدركه الحكومة وتضعه في اعتبارها قبل إصدار الرد رسميًا، بحيث لا يصطدم مستقبلًا مع توجه البرلمان، إذا ما كان الرد غير متوافق مع توجهات الرأي العام، وأدى إلى تسارع وتيرة التصويت على العريضة لتبلغ الحد القانوني من التصويت – 100 ألف صوت، ليصبح البرلمان مُجبرًا على الوقوف إلى جانب الاتجاه الشعبي في مواجهة الحكومة". وأكد أن مطالبة بريطانيا بالاعتذار، يمكن أن يحرّك الساحة الدبلوماسيّة الدوليّة لصالح الحقوق الفلسطينيّة والعربية، وهو بلا أدنى شك، جزء من المعركة القانونية الدولية، التي لم تأخذ الاهتمام الكافي، وخطوة مثل تلك يمكن أن تجتمع عليها البلدان العربية في إطار تحرّك مشترك، وفي الوقت نفسه فهي ترويج للمبادرة العربية وللرغبة في إقامة سلام دائم وعادل، ولا سيّما بتحميل المجتمع الدولي وقواه المتنفّذة مسؤوليّته على هذا الصعيد.