يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «سلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من روايته «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى. ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية». «صفوان» الفلاح البسيط أهداه عقله إلى الشك فى كلام «حسن». قاس ما قاله على ما يعرفه عنه، ولم يصدّقه، وسعى إلى أن يعرف الحقيقة. كنا فى الصيف، وجلسنا نطلق أصواتًا فى النسائم السخيّة التى رفرفت لها شواشى النخيل، فكان كلامنا يرتد إلى آذاننا هسيسًا. قلت يومها رأيى ل«صفوان». مجرد رأى من معين فلسفتى الخاصة، أو رؤيتى للحياة، لكنه أراد برهانًا من كلام قديم مثل الذى سمعه من «حسن»، فكان علىّ أن أذهب معه فى اليوم التالى إلى مكتبة قصر ثقافة مدينة «المنيا». فى الطريق قابلنا «أبو سعيد»، كان يدندن بمقطع من سيرة بنى هلال. نظرت إليه وقلت لصفوان: هل رأيت فى بلدنا أتقى من هذا الرجل؟ لا. ها هو يغنّى بصدر منشرح. لكنه لا يعزف. وصمت قليلًا ثم واصل: «حسن»، قال لى إن الغناء أو الإنشاد بلا معازف لا حرام فيه. زفرت من الغيظ وسألته: وهل تصدّقه؟ لا أصدقه ولا أكذّبه.. أريد أن أعرف. «حسن» يردد ما سمعه من شيخه، أنا لا أثق فيه هو لأنى أعرفه جيدًا، لكن ربما يكون شيخه محل ثقة، ولا أريد أن أغضب ربى. الله جميل يحب الجمال. ضميرى يوجعنى وآن له أن يستريح. استفتى قلبك وستجد ما يفرحك. استفتيته، لكننى أريد أن أزيده اطمئنانًا. ونحن فى الطريق إلى المكتبة غرقت فى تفكير عميق حول ما دار مع «صفوان» من حوار، حتى نسيت أنه يمشى بجانبى، ويستعد إلى أن يتعتع فى سطور كتاب قديم، متسلحًا بالحصيلة البسيطة التى حازها رجل تسرب من الصف الرابع الابتدائى. وقفزت الأسئلة إلى رأسى توخزنى بإبر دفنوها دقائق فى نار تلظى. من أين لهذا الرجل بهذه الحكمة التى لا أجدها عند كثيرين من زملاء الجامعة؟ هم يحفظون ما يقال لهم فى قاعات المحاضرات عن ظهر قلب ويتسابقون فى ترديده، وأساتذتهم الذين ليسوا أحسن منهم حالًا، يقيمونهم على قدر ما استقر فى ذاكرتهم، لا وفق ما فهموا أو وعوا، ويا ويل مَن فكّر فى أن يراجع وينقد ويبحث عن مسارب أخرى ليسلكها نحو الحقيقة. وهؤلاء ليسوا الأسوأ حالًا، بل هناك من جذبتهم الجماعات الدينية التى تتشظّى كالأميبا، ثم مدّت مخالبها وأمسكت بأمخاخهم وعصرتها بقسوة فتساقطت كل الملكات إلا ملكة التذكّر، ثم راحت تحشيها بكلام عفا عليه الزمن، ولا يشد إلا إلى الوراء. كيف لهذا العازف الذى ينقل عينيه ولسانه بصعوبة بين الحروف أن يطلب منى ما لم يطلبه زملائى الذين يركضون فوق السطور؟ وقد كانت لهذه الرحلة، يا ولدى، أثر هائل فى نفسى وعقلى، إذ كنت أستعيد الطاقة المفرطة التى هزّتنى وأنا جالس إلى جانب «صفوان» وهو يقلّب صفحات الكتب، كلما كنت مُقدِمًا على إعداد دفوعى فى أى من قضايا الرأى التى ترافعت فيها منتشيًا، خصوصًا تلك التى اتُّهم فيها أمثالك روائيًّا بأنه يدعو إلى الإلحاد والرذيلة. فى بداية رحلتى كنت أرتاد المكتبات العامة، أجلس فيها ساعات طويلة، لأجهّز ردودى العميقة، حتى صار ما أكتبه أشبه بدراسات مطولة. ولمَّا أصبح بإمكانى أن أشترى هذه الكتب، وأحملها معى إلى بيتى. ولما صار لى مكتب خاص، تراصت الكتب على أرفف خشبية متينة، صنعها لى نجار ماهر، وكنت طيلة الوقت أتنقل بين صفحاتها، وصفحات قانونى العقوبات والإجراءات، والدستور. ومع توالى المرافعات أخذت الصحف تنشر مقتطفات مطولة منها، وأحيانًا كانت تنشرها كاملة، فتحدث جدلًا عارمًا. وبعد فترة بدأ بعضها يطلب منى أن أكتب مقالات عن حرية التعبير والإبداع والاعتقاد، وبهذا نشبت بينى وبين شيوخك معارك طاحنة، وفى ركابها خططوا ليخطفوك منى. لكن كل ما فعلوه لم يجعلنى أبدًا أنسى هيئة «صفوان» وهو يمشى إلى جانبى مرحًا فى رحلة العودة من مكتبة «قصر الثقافة». يومها سألته عما يدور فى رأسى، فضحك طويلًا، وعدل طاقيته التى اهتزّت، وقال: العلم فى الراس مش فى الكراس. فوكزته فى جنبه بلطف: إذا كان الأمر كذلك فلما تتعبنى معك وتأتى بى لنفتش فى الكراريس؟ فوقف فجأة، وأمسك بكتفى وقال: سأعرف رأى الشيوخ القدامى، وسأعود لأستفتى قلبى، وأنظر فى ما يملأ أفواه أولادى الذين ينتظرون الأفراح حتى يحل فى جيب أبيهم ما يأتى إليهم بالطعام. فرفعت يديه من على كتفى وقلت له: يؤتى الحكمة مَن يشاء من عباده. دخلنا المكتبة، وجلسنا فى بقعة النور التى تهديها الشمس من نافذة نصف مفتوحة، وجاء أمينها، مستفسرًا عما نريد، فطلبت منه «إحياء علوم الدين» و«مقدمة ابن خلدون» و«المغنى»، فهزّ رأسه، وسأل: أى أجزاء؟ كلها. فأشار بيده لنا فوقفنا، وسرنا خلفه، حتى وصل إلى رفوف عريضة عليها كتب ذات جلود خضراء وبُنيّة وسوداء وحمراء، وقال: طالع ما تريد، واتركه مكانه على الطاولة. ورحت أقلب الصفحات، وعينا «صفوان» تتابعان الصفحات، حتى وصلنا إلى ما نريد. لم ننقل شيئًا، لكننا كدنا أن نضع خطوطًا تحت سطور كثيرة، لنتساءل عما ورد بها. فى نهاية المطاف اطمأن «صفوان» إلى جمال وحلال ما يفعله، وفى الليل سهرنا على شدو ربابه. شدا أجمل من أى مرة مضت، كان يحرك القوس على الوتر وعيناه مغمضتان، تنسل منهما بعض دموع ساخنة، ورأسه يتحرك يمنة ويسرة جذلانا. تقدمت السنين، وتضاءلت الأفراح، وأصبح ما يقام منها يعتمد على أسباب أخرى للطرب، بعيدًا عن الرباب والسيرة الهلالية، لكن بقى صفوان مخلصًا لآلته التى يطحن بها ما يملأ رأسه من جمال فتتدفّق على حجره موسيقى عذبة شجيّة، تتمايل لها جذوع مَن ظلّوا مخلصين لعطايا الزمن القديم. أما أنا يا ولدى فقد ابتعدت عن شدو الرباب، وأخذتنى المدينة بموسيقاها المختلفة، لكن الحوار الذى دار ذات يوم بينى وبين صفوان ظل عالقًا فى ذهنى لا يبرحه، وكنت أستدعيه أحيانًا لأقول للناس فى اطمئنان: فى بلادنا أميّون يفكرون بطريقة علمية، ومتعلمون لا يعرفون كيف يفكّرون أصلًا. وحين غرقت أنت فى أمواج السلفية المتلاطمة كم تمنيت أن يأخذ الله منك كل ما درسته فى الجامعة، وكذلك ما حشى به الشيوخ رأسك، ويمنحك رأس «صفوان» وربابته. العتبة الرابعة عشرة ها أنا أقطع خطواتى على قطع الموسيقى الآتية من جوف الزمن البعيد، فاخلع نعليك معى، يا ولدى، حتى لا تجرح هذا الجمال. أراك قد غضبت، وذهب ذهنك فى اتجاه لم أقصده أبدًا، لكن لا وقت للجدل بيننا، وإذا أردت أن أريحك سأقول لك: بل البس نعليك وازرع فى باطنه المسامير لتدمى به رأس صاحب الدار المطلية باللون الأصفر، الواقفة هناك عند انحناء ذراع الشارع الذى نسير فيه ويمده إلى الشارع المتعامد عليه ليحضنه فى هدوء شديد. ستسأل: لماذا هذا فقط الذى أردت أن أؤذيه من كل أصحاب البيوت التى مررنا بها؟ وسأجيبك: لا أريد أن أؤذيه، لكننى أردت أن أبيّن لك فظاعة ما يفعله الرجل، ربما تنبّئك بفظاعة ما فعلته أنت، أو ما يفعله شيوخك. أرى العجب قد زحف على ملامحك يصطحب معه بعض الغضب المكتوم. لكنى أثق فى أن ما سأقوله لك قد يفرحك، لأنك ستكتشف أننى أتفق معك، ربما للمرة الأولى، أو لواحدة من المرات القلائل التى تطابق فيها ما نذهب إليه سويًّا. لكن أرجوك لا تقف عند القشور حتى لا نفترق سريعًا، بل انفذ معى إلى لباب الأمر، لندرك أن بيننا مَن خطف بعض ما أهدته لنا السماء ودسّه فى جيبه، نقودًا ومجدًا ورهبة. اقترب معى، وافتح منخارك الذى زحف عليه شعر ذقنك من اليمين واليسار حتى كاد أن يحجب عنه الهواء، لتشم تلك الرائحة التى بدأنا ندخل حيّزها النفاذ. أراك تتساءل: أى رائحة هى؟ إنه بخور الشيخ «غندور». يسمونه شيخًا هنا أيضًا. هو على غير هيئة شيخك، شكل مختلف وكلام به بعض اختلاف، لكن الفعل واحد، وإن تباعدت الأهداف شيئًا ما. أتمنى لو وجدناه فى البيت، فإطلاق البخور لا يعنى بالضرورة أن من رماه فوق الجمر الصافى يجلس أمامه. فهو كثيرًا ما يترك صالة البيت سابحة فى الدخان ويخرج ليلعب الدومينو فى غرزة «صبيح». حين يربح يقول الناس: طبيعى أن يعرف الساحر ما فى يد منافسه من أقشطة، وإن خسر قالوا: يخزى العين. هو فى كل الأحوال يقول لهم: هذه نقرة وما يجرى أمام البخور نقرة أخرى، هذا حظ وذاك معرفة. لم تكن الخسارة تعنيه أبدًا، فما سيدفعه من نقود لقاء ثمن المشروبات التى احتساها هو ومنافسه والمتفرجين كان قد حصل عليه من جيب أحدهم، اليوم أو بالأمس أو قبل ذلك بقليل أو كثير. فما من شخص فى هذا البلد، كبر أو صغر، إلا وقد مرّ عليه. فى الطهور، والزواج، والنكد الأسرى، والبذار، والحصاد، واستمالة العشاق، واسترجاع الغائب، وحماية الذرية، يكون حاضرًا، بأحجبته التى يطويها على شكل مثلث متساوى الأضلاع، بعد أن يحشى جوفها بحروف مبهمة مكتوبة بقلم أحمر، وهو يتلو آيات من القرآن، ويقطعها بكلام غريب، ينساب من لسانه فى لحن عجيب، يأخذ برؤوس الجالسين أمامه. أراك مشمئزًّا يا ولدى، وأعرف سر انكماش خدّيك، وزمة شفتيك، وضيق عينيك، ورغبتك فى التقيّؤ. لكن هذه الحقيقة. كثيرون تنتابهم هذه المشاعر، إلا أنهم فى النهاية يأتون إليه طائعين. الوحيدة التى اشمئزت ولم تنتظر منه شيئًا كانت الشيخة «زينب». والوحيد الذى تجاهله طيلة حياته كان «أبو سعيد». وكلما سأله الناس عن سر استغنائه عن خدمات «غندور»، كان يقول: لا ينفع، ولا يضر مع اسم الله شيئًا، وأنا أُحصِّن نفسى وأهلى بالقرآن والدعاء. سأله الناس عما يتلوه وما يدعو به، فقال لهم كل شىء. قلّدوه لكنهم لم يفلحوا، وحين عادوا إليه ليسألوه عن سبب إخفاقهم، قال لهم: ألسنتكم مملوءة وقلوبكم خواء. ثم صمت برهة، وقال: لا ينفع الدعاء إلا ذا يقين. يقال إن جدّى لجأ إلى واحد مثله فى قرية مجاورة كى يحنن قلب أبيه، فيوافق على زواجه من «روزالين». مرات يذهب إليه بيدين مملوءتين ويعود فارغًا، ليس معه سوى بضع كلمات تبقيه على أمل، راح يترنّح بمرور الأيام حتى مات تمامًا. كان العراف يطمئن جدى إلى أن كل شىء سيكون على ما يُرام، فلما ضاعت منه روزالين كره كل العرافين. كان فى آخر أيامه حين بدأ غندور لعبته، فوقف فى وجهه. حاربه بكل قوة، لكن العمر كان قد فات، خانته قدماه فسقط فى منتصف الطريق. واستغل غندور موته ليقول لأهل القرية: هذا جزاء مَن يحارب الله ورسوله. وسمعه «أبو سعيد» فابتسم، وهزّ رأسه مستنكرًا: وهل أنت الله أو رسوله؟ فرد «غندور» فى بجاحة: نحن حملة العلم، ورثة الأنبياء، وأولياء الله الذين أطلعنا على بعض الغيب. وقف «أبو سعيد» وقال وهو يكظم غيظه: لا تزكِّ نفسك. ثم مضى وهو يتلو: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا». لا أزال أتذكر هذا الحوار. كنت يومها فى ريعان الشباب، الذى كان «غندور» أيامها قد فارقه منذ سنوات قليلة، وكنا نجلس أمام المسجد قبيل الغروب. الشمس تحط على ماء البركة التى تمتد تحت البيوت وتنعكس على وجوهنا فترشف حمرة راحت تزداد دكنة حتى غابت مع سقوط قرص النور الكبير خلف الأشجار والنخيل على الجسر الذى يعتلى البركة. أما العمدة «حيدر» فله أيام عربدته مع غندور حكاية لا تنسى. فذات ليلة أخذه وصعدا الجبل، سعيًا وراء كنز ثمين أنبأه تجار الملح بأنه مطمور تحت صخرة عملاقة انفلقت من الجبل الشرقى، وساقت تحتها وحولها السيول آلاف الأطنان من الرمل والحصى، لتردم قرية فرعونية كانت تعج بالحياة فى القرون الغابرة. كتم العمدة خبر الكنز عن أهل القرية جميعًا رغم ثرثرته، وباح به «غندور» مع أن الكلام كان لا يجرى على لسانه إلا قليلًا وبحساب شديد، ربما لطبع فيه أو رغبته فى أن يلف نفسه بكثير من الغموض المذهل. ربما باح وثرثر هذه المرة لأنه أراد شهودًا على ما سيفعل، حتى لا يهضم العمدة حقّه إن وجدا الكنز. ركبا حصانين مطهمين من إسطبل العمدة الكبير، وساقا وراءهما جملًا ليأتى حاملًا ما يعثران عليه، وأخذا معهما ماءً وزادًا، وعلفًا للدواب، وكل أنواع البخور التى طلبها «غندور» وبندقيتين آليتين وصندوق ذخيرة. وعادا بعد أسبوع، ليقول العمدة للناس عن شريكه فى الرحلة: أعيته الحيل، وبدا عاجزًا، فما سعينا إليه أكبر من طاقته. ورد «غندور» هامسًا فى آذانهم: أخبرنى رهط من الجن أن العمدة سيصوّب رصاصة إلى رأسى بعد أن أُخرج له الكنز، حتى يموت السر معى، فأظهرت له عجزى، وأفهمته أن بوسعى أن أنجح فى المرات القادمة، لأنجو بنفسى. ورمى «غندور» الخبر عند أثرياء القرى المجاورة، فزاروه ليلًا، وأخذوه ليغيب أيامًا، ويعود ولا أثر للنعمة عليه أبدًا، لكنه حرص على أن لا يغلق باب الأمل فى عيون الطامعين، فبقى زمنًا فى محط أنظارهم، وهم متقلّبون بين اليأس والرجاء. الحلقة الثالثة عشر الثلاثاء القادم