عندما طلب الرئيس عبد الفتاح السيسي فجأة التفويض ببزته العسكرية الكاملة قرب نهاية شهر يوليو 2013، استجاب الملايين من أنصاره ونزلوا إلى الشوارع رافعين صوره وبجانبه صور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قائلين إن سيادته هو ناصر القرن الواحد والعشرين. وكانت حجتهم أن وزير الدفاع في ذلك الوقت واجه العالم الغربي الشرير بقيادة الولاياتالمتحدة منفردا وأصر على إزاحة الرئيس المعزول محمد مرسي رغم الدعم الذي كانت تقدمه له واشنطن وعدة عواصم أوربية. وساهم عدد من رموز الحقبة الناصرية، بما في ذلك أبناء الرئيس الراحل نفسه كالسيدة منى والأستاذ عبد الحكيم، في محاولة ترسيخ هذه الصورة. وبما أن ناصر كان قريبا من الاتحاد السوفيتي السابق أيام ما كان اشتراكيا، فلم يكن من الممكن أن تكتمل الصورة والمسرحية من دون أن يتم الحديث عن ضرورة تنمية العلاقة مع فلاديمير بوتين، العدو اللدود للرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما. وبدأت محطات التلفزيون الرسمية تذيع صباح مساء أفلاما بالأبيض والأسود عن افتتاح السد العالي، وزيارات القادة السوفيت لمصر بصحبة الرئيس عبد الناصر، إلى جانب الاستعانة بأغاني عبد الحليم في تلك الحقبة. تغاضى أصحابنا الناصريون أن الرئيس السيسي كان قد عبر عن إعجابه وانبهاره كذلك بعدوهم اللدود أنور السادات صاحب معاهدة كامب ديفيد والذي وضعهم جميعهم في السجون قبل شهر من اغتياله. كما تجاهل المروجون لنظرية السيسي-ناصر الاحتفاء المفاجئ بالسيدة جيهان السادات وإصرار السيسي على أن تجلس بجواره في الاحتفالات الرسمية بجانب إجراء اللقاءات المطولة معها في التلفزيون المملوك للدولة. فعندما يعرب الرئيس السيسي عن تقديره لسيدة مصر الأولى السابقة، لا بد أن نقدرها نحن أيضا جميعا كمصريين. وتصرف بعض رموز الفكر الناصري على أنهم "من بنها" عندما أكد السيسي في كل تصريحاته إيمانه القاطع باقتصاد السوق والرغبة في رفع الدعم، وأن طريقة تفكيره في هذا المجال تتطابق مع فكر الرئيس المخلوع مبارك من ناحية الانحياز التام للأغنياء والتجاهل الكامل للفقراء، ومطالبتهم فقط بالصبر والتحمل لكي تعيش الأجيال المقبلة بعد عشرين عاما في رخاء. ولكن الأهم أن من كانوا يروجون أن السيسي 2013 هو ناصر 1956 نسوا على ما يبدو أن الاتحاد السوفيتي انهار في العام 1991، وأنه لم يعد له وجود. كما أنه من المؤكد أن بوتين ليس خروتشوف ولا بريجنيف ولا حتى جورباتشوف الذي قيل عنه لاحقا أنه كان عميلا أمريكيا مع خلفه بوريس يلتسين اللذان وافقا على تفكيك الاتحاد السوفيتي وإعلان أمريكا قوى عظمى وحيدة في العالم. ولما كانت الحرب الباردة انتهت، فلم يعد من المتاح تبديل الولاءات بين القوتين العظمتين كما فعل السادات في مطلع السبعينات من القرن الماضي، والعديد من الدول في تلك الحقبة. واذا ساءت علاقتك مع الولاياتالمتحدة فالبديل لا يمكن ان يكون بوتين، حتى لو كان ما يجمعه مع الرئيس السيسي هو ان كلاهما ترأس في فترة ما جهازا للمخابرات إلى جانب ايمانهما القاطع بنظريات المؤامرة الدولية الكونية وان قضايا كالديمقراطية وحقوق الإنسان هي جزء من حروب الجيل الرابع لتدمير وتفكيك الدول. بوتين هو رجل الصفقات وليس المبادئ، وهذا هو ما يحركه أولا وقبل كل شئ. وباللهجة المصرية، بوتين "ما لوش صاحب". وعندما قرر الرئيس الأمريكي السابق الأحمق جورج دبليو بوش غزو واحتلال العراق، اكتفى بوتين بممارسة حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، ولكنه طبعا لم يكن بوارد مواجهة الدولة العظمى التي يرتبط معها بالعديد من الصفقات التجارية لكي يمنع غزو واحتلال دولة عربية، بل إن المقربين منه يؤكدون أنه لا يحمل أي احترام للعرب أو المسلمين عموما. ورغم كل هذه الحقائق البديهية التي يعرفها العالم عن روسيا بوتين، فلقد دلعنا الرئيس الروسي وشلناه على راسنا من فوق واعتبرناه بطل قومي. ورغم أننا "فقراء اوي" على حد تعبير السيد الرئيس، فلقد أغدقنا عليه الصفقات من قوت الشعب المصري، أساسا عبر شراء الأسلحة، بل وسعينا لحل مشكلة بوتين مع فرنسا بشراء حاملتي الطائرات الميسترال من باريس بدلا منه. وبعد أن وقعت حادثة الطائرة الروسية التي أسقطها إرهابيو داعش في شرم الشيخ، كدنا أن "نقيد صوابع ايدينا العشرة شمع" لإبداء الاعتذار والندم للسيد بوتين. وبجانب إغداق المزيد من الصفقات والإعلان عن قرب توقيع عقد مع روسيا بقيمة عشرين مليار دولار لبناء 4 مفاعلات نووية سلمية في الضبعة يرى كثيرون أنه لا حاجة لنا مطلقا الآن في ظل فقرنا الشديد كدولة، فلقد كدنا نتخلى عن سيادتنا الوطنية تماما لكي يوافق المسؤولون الروس على العودة لاستئناف الرحلات الجوية إلى مطارات مصر المختلفة. ودعونا نقارن سلوك بوتين مع مصر بما فعله مع تركيا. ورغم أن انقرة أسقطت طائرة حربية للروس فوق الأراضي السورية ومرمغت كرامة روسيا في التراب، بل وتم لاحقا اغتيال سفير روسيا في تركيا، فلقد تغاضى قيصر موسكو عن كل ذلك، والتقى عدة مرات مع رجب طيب اردوغان. فما الذي يجعل بوتين متساهلا هكذا مع تركيا رغم أنها لم تمنحه صفقات ولا مليارات، بينما يتشدد بهذه الطريقة المهينة في التعامل مع مصر؟ لقد شربنا العديد من مقالب بوتين، وليكن أقل رد عليه، وعلى تعامل المسؤولين الروس معنا كأننا أطفال صغار بأن يعدونا كل أسبوع بقرب عودة السياحة الروسية، هو الإعلان بشكل نهائي عن تجميد كل صفقات السلاح مع موسكو والتوقف عن التفاوض لبناء المفاعلات في الضبعة. وإذا كانت طريقة بوتين في التعامل مع الدول الأخرى تقوم على الصفقات وتبادل المنافع، فالأسواق العالمية كثيرة وعديدة، ولنقل للسيد بوتين باي باي.