فجأة، ومن دون سابق إنذار استقالت حكومة الدكتور حازم الببلاوى كاملة. كانت القناعة السائدة هى أن الوزارة باقية حتى يعلن المشير عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية، ثم يقوم الدكتور الببلاوى بتعديل محدود يشمل تعيين وزير دفاع جديد وملء عدة حقائب، منها الذى خلا باستقالة صاحبها كما هو الحال مع زياد بهاء الدين وزير التعاون الدولى السابق، أو بالعوامل الطبيعية نتيجة الوفاة أو المرض كالإنتاج الحربى والكهرباء. وكان الافتراض هو أنه لا يوجد مبرر لإجراء تغييرات واسعة تشمل الببلاوى نفسه، فى ضوء أن الحكومة برمتها «انتقالية» سترحل مع تولى رئيس جديد منصبه وتعيين حكومة جديدة. ولكن وسط حالة من الاضطراب غير المسبوق منذ تولى الببلاوى منصبه فى يوليو الماضى، وانتشار الإضرابات فى قطاعات عديدة مهمة كالأطباء والنقل والغزل والنسيج والشهر العقارى، أعلن الرجل بلَيلٍ أنه قرر الاستقالة، من دون تقديم مبررات لهذه الخطوة غير المتوقعة، وتأثيرها على تنفيذ بقية خريطة الطريق، وتحديدا انتخابات الرئاسة المقبلة. والتفسير الوحيد الذى يبدو مقبولا هو أن الرجل رأى أن حجم الانتقادات والهجوم عليه وعلى وزارته فاق قدرته على التحمل، خصوصا أن مظاهر الفشل البادى فى أداء الحكومة لا يتحمل مسؤوليتها بمفرده، ولكنها ترتبط بالأساس بفشل القائمين على الأجهزة الأمنية، ومن طالبوا بتفويض شعبى وأمر بمكافحة الإرهاب واستعادة الاستقرار، فى أداء هذه المهمة. وبالتالى لن يتوفر أى دخل مالى من أى نوع، سواء عن طريق الاستثمارات أو السياحة، للقيام بمشاريع من شأنها تلبية الطموحات المشروعة لملايين المصريين من محدودى الدخل ممن تحملوا كثيرا من المعاناة على مدى السنوات الثلاث الماضية. قد يبذل السيد وزير السياحة النشيط هشام زعزوع جهودا خارقة للتسويق لمصر فى الخارج واجتذاب السياح إلى المناطق الآمنة نسبيا، ولكن هجوما واحدا كذلك الذى شهدته طابا وأدى إلى مقتل سياح كوريين من شأنه الإطاحة بكل طموحات الوزير وخططه. والأمر نفسه ينطبق على الوضع الداخلى. فوزير الداخلية الباقى فى منصبه دائما مهما كانت معالم فشله اليومى، يستطيع أن يخرج علينا صباح مساء ليردد ويكذب كالمعتاد قائلا إن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، وإن كل هجمة كبيرة يقوم بها الإرهابيون هى فى الواقع دليل على اقتراب نهايتهم وإفلاسهم، ولكن يبقى الواقع على الأرض أن أعداد القتلى من جنود ورجال الشرطة فى ازدياد، وأن الإرهابيين يقومون بعمليات أكثر عنفا وضررا. وكذلك الحال فى سيناء، نسمع كل يوم عن مقتل خمسة وعشرة وعشرين إرهابيا خطيرا فى غارات يشنها الجيش هناك، ليليها بعد ذلك هجوم كبير سواء بتفجير انتحارى أو إسقاط طائرة هليكوبتر بصاروخ. كما قد تنجح أجهزة الدولة القديمة المختلفة فى حشد المواطنين المتشوقين للاستقرار والأمن للتصويت بنسبة 98.5 فى المئة لصالح الدستور الجديد، ولكن الحقيقة أن نفس هذه الأجهزة هى أول من تنتهك نصوص ذلك الدستور وكل ما به من ضمانات لحماية حريات وحقوق المواطنين، وذلك بالتوسع فى سياسة الاحتجاز وتلفيق الاتهامات تحت زعم محاربة الإرهاب، وعودة ممارسات ربما لم تختف أبدا من تعذيب وانتهاك لأبسط الحقوق الآدمية. والقائمون على هذه الأجهزة شنوا حملة ضارية ضد الببلاوى وحكومته منذ اليوم الأول لبدئه فى العمل، وذلك بزعم أنها بها وزراء قام بتعيينهم نائب الرئيس المستقيل الدكتور محمد البرادعى، وأن منهم من عارض قانون التظاهر الذى تمسك به وزير الداخلية كشرط للتمكن من مكافحة الإرهاب. فشل الوزير الهمام فى مكافحة الإرهاب، ولكنه استخدم قانون التظاهر للتوسع بشكل غير مسبوق فى اعتقال المتظاهرين وإصدار أحكام قاسية بالسجن بحقهم بلغت عامين وثلاثة أعوام وغرامات تتراوح بين عشرين وخمسين ألف جنيه. الآن رحل الدكتور الببلاوى، وهلل أنصار الرئيس المخلوع مبارك لخروج بعض الوزراء ممن كانوا يدافعون ويفتخرون بثورة 25 يناير، التى أضرت بمصالحهم وعطلت فسادهم، وجرى تعيين المهندس إبراهيم محلب رئيسا للوزراء وسط حملة دعائية مكثفة بأنه الرجل الذى سيتمكن من تصحيح الأوضاع المختلة، وذلك لأنه أثبت خلال توليه لوزارة الإسكان أنه فائق النشاط وقريب من المواطنين البسطاء وقادر على تنفيذ وعوده، وهى كلها خصال حميدة دون شك فى مجال الإسكان، ولكنها لا تعنى بالضرورة قدرته على إدارة شؤون البلد بأكمله. وبعد أن وعد سيادته بأن تكون حكومته أسرع حكومة تتشكل فى تاريخ مصر، وأن يقوم بحلف اليمين أول من أمس الخميس، تبين أنه أفرط فى التفاؤل، وأن التعيينات واجهت عقبات، وأنه سيضطر إلى تأجيل إعلان التشكيل النهائى ربما حتى اليوم السبت أو بعد ذلك. فالواقع قد تغير، ولم يعد كثيرون يقبلون بشغل المناصب الوزارية فى حكومة يعرفون جيدا أنها محكوم عليها بالفشل فى ضوء تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وهو ما يفوق بكثير قدرات المهندس محلب مهما كانت. كما أن اختياراته حتى الآن تؤكد أنه يعتمد نفس الأساليب المباركية فى اختيار الوزراء، وأننا بصدد حكومة جديدة قديمة بامتياز. الحقيقة هى أننا سنستمر فى حالة من عدم الاستقرار والغموض حتى يتم شغل منصب رئاسة الجمهورية برئيس دائم لا مؤقت، واتباع هذا الرئيس سياسات من شأنها تحقيق الوفاق الوطنى، لأنه الطريق الوحيد لاستعادة الاستقرار والأمن، بدلا من العودة لوهم أن الحلول الأمنية والقبضة الحديدية فقط هما القادران على تحقيق هذه الأهداف. ومن المؤكد أن التأخير غير المفهوم فى إصدار قانون الرئاسة من قبل مؤسسة رئاسة الجمهورية، وتأخر المشير السيسى فى إعلان قراره بشأن الترشح لرئاسة الجمهورية لا يسهمان مطلقا فى خلق أى أجواء تسمح بالاعتقاد أن مجرد استبدال رئيس وزراء بآخر، من شأنه الخروج بنا من الحالة المزرية التى نمر بها الآن من كل النواحى السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.