نحو 199 كم، هي المسافة بين مدينتي العريش بشمال سيناء والإسماعلية، مسافةٌ تستغرق وقت يقارب الساعتين والنصف، لكن لم تكن هذه المواصفات الطبيعية للطريق تنطبق على الطريق الذي سلكه أقباط العريش للوصول إلى الإسماعلية بأعداد تُقدر بالعشرات خلال الثلاثة أيام الماضية، هربًا من الجماعات المسلحة التي قتلت حتى الخميس الماضي سبعة منهم. اضطر هؤلاء الأقباط للانتظار في سيارات نقل أو على الطريق أو في بيوت جيرانهم المسلمين حتى ساعات الصباح الأولى عقب انتهاء حظر التجول المفروض في سيناء منذ أحداث العنف التي شهدتها في 2013، ليتحركوا بعد ذلك، واستغرقت المسافة مع بعضهم نحو 5 ساعات، يمرون خلالها على كمائن للشرطة والجيش، ويحبسون أنفاسهم خوفًا من أن يسير خلفهم سيارات نقل لتتبعهم، وهي السيارات المعروفة لديهم بأنها تابعة للجماعات المسلحة. وسافرت أسر مسيحية من العريش إلى الصعيد ومحافظات أخرى، في حين استطاعت 80 أسرة (وفقًا لبيان للكنيسة) اجتياز هذا الطريق خلال يومي الخميس والجمعة، والوصول إلى مدينة الإسماعلية، حيث وفرت الكنيسة الإنجيلية هناك بيوتًا داخلها ل37 شخصًا، لكن قدرتها لم تحتمل العدد الذي يزداد كل يوم. وبحسب أحد المصادر الكنسية، تواصلت الكنيسة الإنجيلية مع القساوسة بالكنيسة الأرثوذوكسية بالإسماعلية لإيواء بقية الأسر، وبالفعل استقبلت كنيسة الأنبا انطونيوس بمدينة المستقبل، التي تقع في مدخل المحافظة، 9 أسر، وتواصلت مع سماسرة لتسكينهم في الشقق الجديدة بالمدينة. يقول القس بولس مكرم، كاهن كنيسة الأنبا انطونيوس بمدينة المستقبل، ل«التحرير»، إن التسعة أسر الموجودين حتى الآن، تم تسكينهم ب6 شقق دون عقود، لكنها تطلب دفع شهر إيجار مبدئيًا، وفيما يخص هذا الأمر، ستتناقش الكنيسة مع الأسر الأيام المقبلة حول مدى إمكانية دفع جزء من الإيجار على أن تسدد الكنيسة الباقي منه. لم تستطع أغلب الأسر حمل أغراضهم وأثاث منزلهم من العريش ليضعوه في هذه الشقق الجديدة، لأن - بحسب وصفهم - «كل دقيقة كانت تمر كانت خطر على حياتهم، فرحلوا بالملابس التي يرتدونها فقط». تركت الأسر شققهم الجديدة وجلسوا في ساحة كنيسة الأنبا انطونيوس، التي تبعد أمتار قليلة عن سكنهم، وهنا تأتي لهم التبرعات من الأهالي أو الإغاثات من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالشراكة مع الهلال الأحمر المصري، والتي كانت عبارة عن «كارتونة مواد غذائية» لكل أسرة، تكفيها لمدة أسبوعين. تهافت بعض الأسر على أخذ الإغاثات، في حين ظل آخرين بعيدين عن العربة، ما جعل إحدى خادمات الكنيسة تذهب ببطاقات الرقم القومي الخاصة بهم لتستلم عنهم المواد الغذائية، قائلة لعامل الهلال الأحمر: «معلش دول نفسهم عزيزة أوي». يشعر عدد كبير من هؤلاء الأقباط ب«المهانة»، بحسب ما يقول كيرلس حشمت، الذي فتح بيته ليستضيف خمسة أسر منهم، ويبرر شعورهم بأنهم كانوا يمتلكون بيوتًا ومحال وورش في العريش، وجاءوا إلى الإسماعلية دون أي شئ، وبدلًا من أن يعيش الزوج مع زوجته وأولاده بشقة مستقلة فالآن يعيش مع عائلته. صديق قبطي من أهل العريش، كان قد اتصل بكيرلس ليطلب منه فتح الخمسة شقق الذي يستأجرهم ببيته للأسر القبطية الوافدة إلى الإسماعلية، ولم يتردد الأخير في قبول ذلك، وسَكن 40 فردًا (5 أسر) في الشقق الخَمس. كيرلس يقف أمام البيت ممسكًا بورقة تحمل أسماء الأسر وعددهم، ليوزع عليهم ما تحمله عربة النقل من إغاثات كالبطاطين والمواد الغذائية، والتي تُرسل له من مطرانية الإسماعلية أو كنيسة الأنبا انطونيوس بمدينة المستقبل، وكانت مطرانية الإسماعلية، أعلنت في بيان لها، عن فتح حساب اليوم الأحد، باسم الأنبا سيرافيم، أسقف الإسماعلية، لجمع التبرعات. يقول كيرلس ل«التحرير»: «الكنيسة تتواصل معي دائمًا للأطمئنان عليهم، وأسمع منهم طوال الوقت حكايات صعبة، فسيدة منهم قُتل زوجها أمام عينها، فتُغلق على نفسها وبناتها الشقة ولا تقابل الزائرين، وآخر يرى أن ما يحدث لهم ضغط من أهالي ومسلحين على الحكومة للإفراج عن معتقلينهم، خاصة بعد واقعة مقتل عشرة من أهل المدينة على يد الشرطة، وزَعم أسرهم إنهم كانوا معتقلين لدى الداخلية منذ شهور». كان من بين سكان بيت كيرلس أيضًا، رضا عطا، 24 عامًا، التي جاءت مع والدها ووالدتها وأخواتها وأبنائهم، ليجلسوا 11 فردًا في شقة مكونة من ثلاث غرف فقط، ليس هذا الوضع ما تحزن عليه رضا وحسب، لكنها تتحسر على ضياع الترم الثاني من سنتها الأخيرة بكلية التجارة في جامعة العريش، وعلى وظيفتها الحكومية بمحافظة شمال سيناء. شقيق رضا سبق أسرته بأسبوع إلى الإسماعلية ليجلس عند شقيقته المتزوجة هناك، خوفًا من قتله على يد المسلحين بالعريش بعد أن سمعوا عن استهداف الرجال، ولنفس السبب اضطرت السيدة نجلاء، على غير رغبة منها ترك المدينة التي حسبما قالت «عاشت بها عمرها كله»، لتحمي زوجها من القتل، فتقول ولم تستطع أن تتمالك دموعها: «هو اللي باقي للعيال لأن أنا عندي السرطان وهموت.. لكن رغم كده نفسي أرجع تاني». العودة إلى العريش ليست رغبة نجلاء، وحدها، فاتفقت كل الأسر على ذلك بشرط أن يأمنوا على حياتهم، فسيدة أخرى تدعى نجلاء أيضًا، لكنها تقيم في مساكن الشباب التي وفرتها وزارة الشباب والرياضة ل30 أسرة، تقول: «بقالنا 3 سنين بنسمع عن تطهير سيناء من الإرهاب ومحصلش حاجة، ولادنا مبيرحوش مدارس ولا دروس، وزوجي كهربائي بيجيب رزق اليوم بيومه مبقاش ينزل من البيت، ورغم ده كله بيطلعوا البيوت يقتلونا، وانهارده الوزيرة غادة والي جايه تقولنا هترجعوا بيوتكم خلال أيام، طب ازاي؟، إحنا مبقناش واثقين في وعود حد، لأنهم مش عايشين عيشتنا». وكانت غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، قد التقت أمس، بمحافظ الإسماعيلية، اللواء ياسين طاهر، والأنبا سارافيم، أسقف الإسماعيلية، لبحث احتياجات الأسر، ذلك بعد أن أجرى شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، اتصالًا بالبابا تواضروس، ليؤكد اهتمام الدولة وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي، بأوضاع المصريين المسيحيين بشمال سيناء، لذلك كَلف وزيرة التضامن بمتابعة أحوالهم وتلبية احتياجاتهم. في الوقت الذي قطع فيه هؤلاء الطريق الصعب من العريش إلى الإسماعلية، حتى وإن واجههم مصير مجهول بعد ذلك، لازال غيرهم يتمنون الخروج خاصة – بحسب ما وصل للسيدة وفاء شاكر (إحدى النازحات) من أقاربها – أن الجماعات المسلحة هددت السائقين بالقتل حال نقلهم الأقباط خارج المدينة.