تخرج مع أصدقائك في أحد المولات التجارية، لتتسوق وتشتري الملابس، ثم تشعر بالاحتياج إلى قضاء حاجتك، فتبدأ البحث عن مرحاض، وكل أمانيك أن تجده نظيفًا وبه من المناديل ما يغنيك عن سؤال الغير، ولكن ماذا عن الوضع في الدولة التي يُطلق عليها الكثيرون لقب "كوكب"؟ الذهاب إلى المرحاض، بالرغم من أنه عملية طبيعية، وضرورة بيولوجية، هو أحد المواضيع التي يراها الناس محرمة النقاش، ربما لاعتيادهم الابتعاد عن الخوض في الأمور الشخصية، خاصة تلك التي تمس أكثر أجزاء الحسم حساسية، لكن لا يعلم الكثيرون أن للمرحاض فوائد أخرى تتعلق بالاقتصاد، والسياحة، والسعادة، بعيدًا عن فوائده الصحية ودوره في إنقاذ الأرواح ومنع انتشار الأمراض. بيت الراحة كما يسميه المصريون، ليس مجرد مكان لقضاء المواطن حاجته في اليابان، بل له تكنولوجيا قائمة بذاتها، تدعمها حكومة البلاد، وتنفذها الشركات، وتتطور باستمرار، ومن فرط الاهتمام به صنعت له اليابان متحفًا يعرض أحدث تقنيات المراحيض. سوبر تواليت في عام 1917، أسس رجل ياباني يدعى كازوشيكا أوكورا، شركة يقع مقرها في مدينة كيتاكيوشو، باسم "Toto- توتو"، بهدف إنتاج مراحيض صحية مماثلة لتلك التي يتم إنتاجها في الولاياتالمتحدة وأوروبا، وفي ذلك الوقت، عانت اليابان من عدم وجود نظام صرف صحي عام، ولم يكن بها سوى مراحيض تقليدية، تعرف باسم "مراحيض القرفصاء"، تشبه "الحمامات البلدي" لدينا في مصر، والتي تضطر المرء إلى الجلوس في وضع القرفصاء من أجل قضاء حاجته. زلزال كانتو الكبير، الذي ضرب اليابان عام 1923، سبب دمارًا كبيرًا، وحصد معه أرواح أكثر من 100 ألف شخص، فاضطرت البلاد إلى إعادة البناء من الألف إلى الياء، وسمح البدء من الصفر لمخططي المدن ببناء نظام حديث للصرف الصحي، حتى بدأت المراحيض الغربية في الظهور. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، غزت المراحيض الغربية منازل اليابانيين، حتى تخطى عددها مراحيض القرفصاء عام 1977، نظرًا لسهولة استخدامها من ناحية الجهد، وتجهيزها بخصائص توفير المياه، مثل القدرة على اختيار كمية تدفق مياه الشطف، والصنبور المثبت فوق الخزان، الذي يسمح للمستخدمين بملء خزان المياه المخصص للشطف، وفي نفس الوقت غسل أيديهم. الازدهار الاقتصادي في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أو المعجزة اليابانية الاقتصادية كما يفضل البعض وصفها، أحدث طفرة على مستوى الإنشاءات، فكان المرحاض الغربي هو المرحاض الذي يختاره الناس في منازلهم، ومن هنا انطلقت شركة "توتو"، وصنعت مرحاضًا إلكترونيًا باسم "Washlet" في عام 1980، عرف بشعار "سوبر تواليت- المرحاض الفائق"، وتميز وقتها بجمعه ما بين خصائص المرحاض الغربي، وخصائص أخرى جديدة. قدم مرحاض "Washlet" ثورة كبيرة في عالم المراحيض، نظرًا لتزويده بفوهة تمتد إلى الأمام من تحت المقعد، ينبعث منها الماء الدافئ وفقًا للحرارة التي يرغبها مستخدمه، وفي نفس الوقت، مجفف هواء دافئ، ليطبق المرحاض فكرة الغسل والتجفيف، بدلًا من المسح بورق التواليت. اليابانيون عشقوا مرحاض "Washlet"، وحظى بنجاح ساحق دفع شركة "توتو" إلى تحويله لعلامة تجارية خاصة، تبيع تحتها ملايين المراحيض ليس في بلدها الأم فحسب، بل في الكثير من دول العالم. صوت الأميرة .نساء اليابان كنّ يشعرن بالحرج من سماع الآخرين لهن أثناء عملية التبول، ولتغطية الأصوات التي تصدر، لجأن إلى فتح المياه، وإهدار كميات كبيرة منها، ولم تفلح أي حلول معهن أو حملات توعية كي يتوقفن عن هذه الممارسة. شركة "توتو" استغلت دراسة توصلت إلى أن المرأة اليابانية تهدر كمتوسط 2.3 جالون من المياه في كل زيارة للمرحاض، حتى تغطي على أصوات عملية التبول، فقدمت منتجًا مبتكرًا في عالم المراحيض عام 1988، باسم "Otohime- صوت الأميرة"، جعل النساء أكثر راحة مع استخدام المراحيض العامة، وفي نفس الوقت، وفر ملايين لا تحصى من جالونات المياه أثناء عمليات قضاء حاجتهن. وتم تعميم استخدام الجهاز في جميع المراحيض العامة الخاصة بالنساء في اليابان، فكان يعلق على الحوائط أو بجانب المراحيض، وبضغطة زر يصدر صوت المياه، دون وجود فعلي للمياه، وساهم في احساس المرأة بالراحة أثناء قضاء حاجتها، وفي نفس الوقت كان له أثر اقتصادي كبير. إحدى المسؤولات في شركة توتو، وتدعى ناريكو ياماشيتا، قالت تعليقًا على اختراع صوت الأميرة، إنه يوفر لمكتب قوامه 1000 موظف، ما يقرب من 3.8 مليون ين سنويًا. وأكدت ياماشيتا أن اختراع صوت الأميرة لا يزال مطلوبًا حتى الآن، حيث شهدت شركة "توتو" طفرة في طلبات الحصول عليه من الفنادق التي تم تجديدها استعدادًا لدورة الألعاب الأولمبية في طوكيو عام 2020، نظرًا لأنه سيوفر مئات الآلاف من الدولارات. صوت الأميرة بمفهومه في ثمانينات القرن الماضي أصبح فكرة، فصنعت شركة أخرى تسمى "تاكارا تومي" نسخة محمولة منه، تحملها المرأة معها كي تستخدمه في أي مرحاض تدخل إليه. مساج وتكييف وريموت كونترول مراحيض "Washlet" المتطورة، أصبحت إلكترونية، وتتواجد في 76% من منازل اليابانيين، بالإضافة إلى المؤسسات والفنادق والمطارات ومحطات المترو والقطارات. تمتلك المراحيض المتطورة في اليابان عدة مميزات لم تراها من قبل على الأغلب، مثل مدفع مياه تلقائي للشطف، وضبط درجة حرارة المياه وضغطها تلقائيًا أو يدويًا حسب رغبة المستخدم، وفوهة تعقيم بالأشعة فوق البنفسيجية للتطهير الذاتي من الجراثيم، وخاصية إزالة الرائحة الكريهة، ومقاعد تدفئة، وتنظيف تلقائي للأعضاء التناسلية والأرداف، وتدليك، وبخاخ صابون، ومجفف هواء، وموسيقى، وتكييف هواء، والكثير من المميزات الأخرى. وتوجد ميزة مثيرة أيضًا في المراحيض، وهي خاصية "Timer- مؤقت"، تمكن المستخدم تلقائيًا على سبيل المثال من ظبط حرارة المقعد كي يكون باردًا في الصباح حين يستيقظ من النوم، ودافئًا في الليل. رفاهية المرحاض في اليابان وصلت أيضًا إلى حد وجود ريموت كونترول للتحكم في وظائفه عن بُعد، كما أن جميع الأزرار الخاصة بالوظائف تعمل بأزرار حساسة للمس، أو عبر أجهزة استشعار، وكأنك تستخدم هاتفك الذكي. مناديل لتنظيف الهواتف الذكية اليابان بدأت في تنفيذ خطوة جديدة، من أجل الحفاظ على الصحة العامة للمواطنين من خلال وضع أوراق مراحيض مُخصصة للهواتف المحمولة في 86 دورة مياه بالمطارات حتى ينظف المستخدمون أجهزتهم. وتأتي هذه الخطوة ضمن خطة وضعها مسؤولي الصحة العامة في اليابان، بعدما اكتشفوا أن الهواتف تحمل جراثيم أكثر من تلك المتواجدة على مقاعد المراحيض. الأوراق تبدو مثل أوراق المراحيض العادية، إلا أنها أصغر حجمًا، ومكتوب عليها "للهواتف الذكية"، وهي لا تزيل الجراثيم من الأجهزة فقط، بل وتحمل بيانات هامة مكتوبة باللغة الإنجليزية، عن خدمات الإنترنت، ومعلومات متعلقة بالرحلات الجوية. مفتاح الوصول إلى قلوب السياح دورة الألعاب الأولمبية عام 2020، سوف تقام في مدينة طوكيو، والحكومة اليابانية ليست ببعيد عن استغلال مراحيضها المتطورة للترويج لهذا الحدث. الحكومة اليابانية أصدرت أوامر بتزويد جميع الفنادق التي سينزل بها السياح من مختلف دول العالم، بالمراحيض المتطورة التي تُصنع محليًا، من أجل الترويج لتلك الصناعة التي تتصدرها اليابان بامتياز، بل ووضعت المراحيض المتطورة كعنصر أساسي سيتم استخدامه في الملصقات والإعلانات الدعائية الخاصة بأولمبياد طوكيو 2020. وتهدف اليابان بتلك الخطوة إلى الترويج للسياحة في البلاد من ناحية، ومن ناحية أخرى تعزيز عمليات بيع المراحيض المتطورة في جميع أنحاء العالم. واستعدادًا لذلك الحدث، خصصت اليابان أيضًا صالة عرض في مطار ناريتا الدولي بطوكيو، تسمح للمسافرين بتجربة أحدث المراحيض المتطورة. متحف مراحيض اعتزازًا بتكنولوجيا المراحيض التي وصلت إليها اليابان، سمحت البلاد لشركة "توتو" ببناء متحف تكلف 60 مليون دولار، يعرض تاريخ المراحيض التي تم صناعتها. المتحف تم بناؤه احتفالًا بالذكرى السنوية ال100 على تدشين "توتو"، ويوجد به آلاف المنتجات، وتم تعيين مرشدين به، كي يتواصلوا مع الزوار ويشرحون لهم التاريخ الكبير للشركة الشهيرة. مكانة "توتو".. وجنون الصينيين بمراحيض اليابان من حلم منافسة المراحيض المنتجة في أمريكا، أصبحت شركة "توتو"، التي تأسست في عام 1917، بمدينة كيتاكيوشو، مع مرور السنوات، أكبر مُصنع للمراحيض في العالم أجمع، وتقدر قيمتها حاليًا بعدة مليارات من الدولارات. لم تكتفي "توتو" بمصانع فقط في اليابان، حيث امتد نشاطها ليشمل دول أخرى، حيث أسست لها مصانع في الصين، تايوان، تايلاند، الولاياتالمتحدة، المكسيك، أندونيسيا، فيتنام، الهند، وبريطانيا. ولا تعد "توتو" بالنسبة إلى اليابان شركة تجارية فحسب، بل هي في منزلة شركات مثل سوني، تويوتا، هوندا، وميتسوبيشي، تستخدمها البلاد في رفع مكانتها الاقتصادية. مراحيض اليابان المتطورة لا تحظى بشعبية وسط اليابانيين فحسب، بل لها الملايين من المشجعين في جميع أنحاء العالم. وللدلالة على ذلك، يكفي الإشارة إلى أن الشعب الصيني دفع 616 مليون جنيه إسترليني، لشراء المراحيض اليابانية المتطورة، عام 2015 وحده. اليابان لا تنظر إلى المراحيض على أنها أماكن يقضي فيها المرء حاجته فحسب، بل تعتبرها صناعة كاملة، تدر لها دخلًا، وتجذب إليها السياح، وتمنع عنها الأمراض، وترفع من مستوى الصحة، وتحافظ على النظافة، وفضلًا عن كل ذلك، تجلب إلى شعبها السعادة والارتياح.