التحية واجبة للمسؤولين فى وزارة الثقافة الذين أصروا على إقامة معرض القاهرة للكتاب فى موعده. والتحية واجبة للناشرين الذين لم تؤثر فيهم احتمالات الخسارة المادية أو مناخ الإرهاب المنحط. والتحية واجبة أيضا لكبار المفكرين والمبدعين الذين شاركوا فى نشاطات المعرض، وللجماهير التى قبلت التحدى وانتصرت للثقافة فى هذه الأوقات الصعبة. الجانب الثقافى فى معركتنا ضد الإرهاب جانب أساسى الآن، وسيصبح -حين تختفى أصوات الانفجارات والقنابل- هو الجانب الأهم لسنوات طويلة حتى نقهر هذا الفكر المتطرف ونقطع صلته بصحيح الدين. ولعل ذلك يكون واضحا فى ذهن المسؤولين الذين يركزون الاهتمام الآن -ومعهم كل الحق- على الجانب الأمنى، ليعطوا للجوانب الأخرى الاجتماعية والثقافية ما تستحقه من اهتمام، ولا يتعاملوا مع الثقافة بالذات على أنها شىء ثانوى، ويضاعفوا الدعم المطلوب لها حتى تقوم بدورها وتؤدى رسالتها. لا نريد أن نكرر الخطأ الذى وقعنا فيه حين داهمتنا الهجمة الإرهابية فى التسعينيات، فاكتفينا بالحل الأمنى وتصورنا أننا قضينا على الخطر، بينما كانت جذوره ما زالت مزروعة فى الأرض وأسبابه كامنة فى الظلم الاجتماعى والتخلف الثقافى وتراجع الحريات. الآن ينبغى أن نكون قد وعينا الدرس وأدركنا أن المواجهة لا بد أن تكون شاملة، وأن الجانب الفكرى والثقافى هو أحد جوانبها الأساسية بجانب الجوانب الأخرى التى تتعلق بالعدل والحرية بعد استعادة الأمن والاستقرار. لم ننتصر على تنظيم الإخوان الإرهابى وتوابعه فى الخمسينيات والستينيات بالحل الأمنى وحده، وإنما بمشروع وطنى لبناء الدولة يرتكز على الاستقلال الوطنى والعدل الاجتماعى والنهضة الصناعية والاستنارة الثقافية، التى فجرت ينابيع الإبداع فى كل مجالات الثقافة من المسرح إلى السينما إلى الكتاب. ولم تبدأ هزيمتنا إلا مع انكسار هذا المشروع لتسود التبعية وتتراجع الصناعة ويضيع العدل الاجتماعى، وتنكمش الثقافة فتطفأ أنوار المسارح وتغلق قصور الثقافة وننتقل فى الغناء من عصر أم كلثوم وعبد الحليم إلى عصر «إدينى سيجارة بنى»!! ومع ذلك ظلت الثقافة تقاوم كل هذا القبح والانحدار حتى كانت الثورة فى يناير، وعندما اختطف «الإخوان» الثورة وظنوا أنهم قادرون على المساس بشخصية مصر وثقافتها لتسود ثقافة كهوف أفغانستان وعصور الظلام، أدرك المصريون حجم الخطر وكانت 30 يونيو التى استردت الثورة وحفظت مصر من الضياع. الآن نواجه المؤامرة ونخوض الحرب ضد إرهاب منحط تدعمه القوى الخارجية التى سقطت مخططاتها مع سقوط الإخوان، والتى لا تريد أن ترى مصر وقد استعادت قرارها المستقل ودورها الغائب وانطلقت تبنى نفسها من جديد. المواجهة الأمنية لها الأولوية الآن بكل تأكيد، لكن استئصال الإرهاب بعد ذلك لن يكون إلا عبر مشروع وطنى للنهضة تكون الثقافة «مع الحرية والعدل» أبرز مكوناته. فنحن لا نواجه حثالة تزرع القنابل فقط، ولكن نواجه -فى الأساس- فكرا إرهابيا لا بد أن نواجهه بفكر الاستنارة الذى يطلق طاقات الإبداع فى كل المجالات، جنبا إلى جنب رفع الظلم الاجتماعى وترسيخ الحرية والنهضة بالتعليم والمصنع ورفع راية الاستقلال الوطنى الحقيقى. كان معرض الكتاب إعلانا بالتحدى للإرهاب وفضح جهله وتخلفه. وتبذل دار الأوبرا جهدا رائعا فى أصعب الظروف. ويحاول المسرح استعادة دور غاب طويلا. لكن.. ما زال المشروع الشامل غائبا، وما زال الاهتمام بالثقافة محدودا. وما زلنا فى حاجة إلى جهد كبير لكى تصل ثقافة الاستنارة إلى جمهورها الواسع، ولكى يصبح الإبداع الجميل متاحا لكل الناس، ولكنى ننهى سنوات العزلة بين المثقف المستنير والناس.. تلك العزلة التى تركت الساحة خالية لفكر التطرف وثقافة التخلف. معرض الكتاب كان خطوة على الطريق تقول إن ثقافة الموت والدمار لا يمكن أن تقهر روح مصر التى علمت الدنيا قيم الخير ومعنى الجمال.