قامت الدنيا، ثار الجميع عليه.. انبروا فى نقده والسخرية من جرأته على قول ما لا يعى! واعتبروا رأيه مساسا بكرامة الشعب، وذمًّا فى شرف الأمة. كفرَ الرجل عندما قال إننا لسنا مستعدين للديمقراطية! واعتبر الجميع أن ثورة يناير هى الرد البليغ على افترائه.. فاندلاعها وأحداثها، وما أعقبها هو دليل ديمقراطيتنا. جاءه الرد لاذعا قاسيا مستنكرا، من نخبة، مثقفين، سياسيين، نشطاء، ثوريين... لم يرحمه أحد. طالبوا بنفيه من الحياة السياسية لجهله.. واختفى عمر سليمان من الصورة ولم نلمحه إلا قليلا حتى وفاته. لتظل كلمته، ويظل موقفهم. كيف يجرؤ على التشكيك فى ديمقراطيتنا؟ نحن نقطر ديمقراطية، أحزابا وتنظيمات، مؤسسات وحركات وجماعات. لا تخلو مواقفنا وممارساتنا اليومية من ديمقراطية لا تنضب. لا يجوز التشكيك فى ديمقراطيتنا، وإن خبتت مؤقتًا بفعل نظم استبدادية، إلا أن أساسها وجوهرها وقيمها راسخة! وقد عشنا عقودا نندد باستبدادها ونبشر بالديمقراطية وحقوق الإنسان، نحن بكل أحزابنا ومؤسساتنا النضالية، ومع الثورة جاءت فرصتنا للتعبير بقوة عن جوهر الديمقراطية فينا! مرت ثلاث سنوات على خطيئة الرجل.. واليوم لدينا عشرات الأحزاب.. فماذا نعرف عنها؟ هل سمعت عن رؤيتها أو أهدافها أو برامجها؟ عمر حد منهم جاءك، حاول الحصول على صوتك ودعمك ببرنامجه؟ هل حدث ولو صدفة والتقيت بشبابهم وكوادرهم، يناقشونك ويشرحون برامجهم وأهدافهم؟ يا له من نشاط حزبى مثرٍ للحياة السياسية، معبرًا عن عمق الديمقراطية تلك التى يجسدها سياسيونا وأحزابنا، بعد طول كبت! منظماتنا الأهلية التنموية، الديمقراطية، والحقوقية؟ عمرك سمعت عن أحد غير صاحب الدكان؟ هل تعلم كيف تدار مؤسساتهم؟ تفتكر عمرهم سمعوا عن التغيير والانتخابات.. الديمقراطية؟ عمرك عرفت عن برامجهم وميزانياتهم وأحوالهم؟ مجتمع مدنى فعال وحيوى يعكس بممارساته جوهر الديمقراطية بقيمها.. الشفافية وتداول السلطة والمساءلة.. تمثيل الناس والدفاع عن حقوقهم وقضاياهم.. وكل ما يرددونه لأكثر من عقدين وكان مبارك مكبلهم! نخبتنا الموقرة، ومعظم أبطالها فى عالم خاص من المزايدات.. حوار الثورة، الذى تحول بكل سلاسة إلى تجارة المواقف والمصالح؟ فيكفيك إتقان الصنعة... تزايد على الآخرين، تتشدق بالثورة حتى تفتح لك أبواب الإعلام والشهرة، فتتنافس عليك الفضائيات، ومنها طبعا للمال أو السلطة، وربما كلاهما، فى رهانات رخيصة من مرحلة لأخرى. بلاش كل ده شفت عنصريتنا ضد الفقير، الريفى، المرأة، ذوى الإعاقة، الأسمر والأسود والطفل، اللاجئين.... قائمة لا تنتهى، يا لنا من مبدعين.. سخرية وتحرش وتجبر وغرور.. بحث دائم عن إحساس زائف بالقوة والتفوق، لا يعكس إلا ضعفا وانعدام ثقة! راقبت سلوكياتنا مع بعض عند أى خلاف.. سياسى ولّا اقتصادى ولّا حتى خناقة شارع؟ لا فرق... شرشحة وصوت عال! عمرك التزمت بطابور أو دور أو حق دون الجور على غيرك.. إلا اضطرارًا؟ يا سادة الديمقراطية مش تصريح أو قرار، بل هى سلوك يكتسب من التربية والتلقين والتعود.. من الإلحاح والتصميم والفرض. لم يولد أى مجتمع فى العالم ديمقراطيا، بل خاضت الأمم صراعًا، وفرضت قواعد الديمقراطية، حتى اعتادت الشعوب ممارساتها، لتصبح تدريجيًّا نظام حياة وتفكيرًا وتوجهًا، لتضحى ثقافة مجتمع. الديمقراطية سلوك يجب أن يعتاده أطفالنا فى المدارس، يمارسه شبابنا فى الجامعات والنوادى والجمعيات والمراكز والنقابات والأحزاب.. مؤسسات تعكس قيم الديمقراطية داخلها وفى ما بينها، وفى علاقاتها مع المجتمع أفرادا ومؤسسات. تقدم المثل فى حرية الرأى والتعبير وتقدير الاختلاف، تعبر عن التعددية والتسامح والاحترام المتبادل، فى ظل قواعد أخلاقية حقوقية، تجسد الديمقراطية قبل أن تنادى وتبشر بها. تناست نخبتنا أن مهمتها الأولى بعد الثورة، هى تحويل الديمقراطية عمليًّا من مطلب إلى ممارسة واقعية يحترمها ويتبعها الجميع. اكتفينا بالتشدق بها، كأمر مفروغ منه، وليس هدفا نسعى لبلوغه. اختزلنا الديمقراطية فى صندوق انتخابى يلقى المواطن فيه برأيه مرة، لتجىء سلطة لا تنتظر منه إلا أن ينقلب تابعا خاضعا لها.. واعتبرنا أننا بذلك نطبق الديمقراطية الحقة! اختزلت نخبتنا الأمر، فى حديث الديمقراطية يصدر كل يوم عن منتهكى مبادئها، حوار زاعق بين طرشان. ليثبت نشطاؤنا جميعًا «بعد ثلاث سنوات من الثورة» صدق حديث الجنرال! نحن بكم للأسف لسنا مستعدين بعد للديمقراطية... ولا يبدو الأمر قريبًا! ولن نستعد إلا إذا بدلتم قواعد وآليات عملكم، وراجعتم «مبادئكم» أشخاصا ومؤسسات. ذلك إن قررتم فعلا قيادة المجتمع صوب الديمقراطية، التى لن ننالها إلا بالممارسة التى تبدأ بالقادة الطبيعيين للمجتمع، وليس بشعاراتهم وجعجعتهم ومزايداتهم!