الشعب يريد إسقاط النظام .. من ميدان التحرير انطلق هذا الهتاف فى 25 يناير 2011 وترددت أصداؤه فى مدن كثيرة حول العالم. وظل يدوي ثمانية عشر يوما حتى سقط النظام. نعم سقط. ذهب إلى غير رجعة. ومن يتوهم أن الذي حدث هو مجرد تغيير أشخاص واهم. وواهم أيضا من يتصور الآن بعد 30 يونيو 2013 أن الظروف صارت مهيأة لإعادة ترميم نظام مبارك بواجهة جديدة. إسقاط نظام مبارك كان المطلب والهدف المباشر لحركة الجماهير المصرية فى ثورة يناير ، وكانت ، وهو الأهم ، المادة الوحيدة التي تلقفتها وتناقلتها بشغف وسائل الإعلام. ولكن التغيير الحقيقي الذي كانت هذه الحركة عنوانا له أعمق وأشمل بكثير. فالمطالب التي تتبلور وتصاغ في الشعارات والهتافات لا تعبر بالضرورة عن التغيير الأشمل الذي يفرض نفسه بنفسه في المجتمع ، والذي يجري بحتمية التاريخ منذ زمن فى مصر ، سواءا كنا نعي به أم لانعي. وغالبا ما تأتي هذه الإنتفاضات الجماهيرية لا لشيئ إلا لإزالة عوائق متصدعة بالية من طريقه. الشعب يريد .. هذا وحده كان ولازال عنوان الثورة ، ولم يكن مجرد مطلب. إسقاط النظام كان لابد من تحقيقه ، ولكن ليس لأهميته في حد ذاته ، بل لمغزاه الأعمق وهو ترسيخ الإرادة الشعبية ، فرض إرادة المحكوم على الحاكم ، بعد أزمنة طويلة كان فيها الحاكم وحده هو الذي يفرض إرادته. أو يتوهم أنه يفرضها. ففرض هذا الوهم على الرعية كفيل وحده بجعلها حقيقة. انتهى إلى غير رجعة زمن الحاكم المقدس ، زمن المسئولين الذين لا يجرؤ أحد أن يسألهم أو يحاسبهم. طبعا لازالت طوابير الزبانية والمتزلفين والطبالين والهتيفة في كل مكان ، تنتظر الزعيم القادم ، البطل المغوار والقائد الملهم والمعلم الفذ ، ليقدموا له فروض الطاعة والولاء كعادتهم. فهم لم يتعلموا شيئا آخر. وطبعا لازالت هناك العديد من مؤسسات الدولة الإدارية والأمنية والإعلامية تعمل حسب فلسفتها القديمة كأدوات للحاكم. ولكن الزمن قد تغير. فرضت الإرادة الشعبية نفسها كأمر واقع. وستفرض شيئا فشيئا تغيرا حتميا لكل هذه المنظومة وفلسفتها. حتى لو لم يكن نظام مبارك قد سقط فعلا ، حتى لو كانت فلوله تتوهم اليوم أن فرصتها جاءت للهجوم المضاد ، فقد انتهى هذا الزمن. انتهى زمن كل الأنظمة القمعية التي ترى فى الشعب قطيعا يحكم بمبدأ الأمر والطاعة. كان هذا هو الدرس الذي لم يعيه مرسي وبطانته. وإن لم يعيه من يخلفه فسيكون له نفس المصير. ولكن ثورة يناير لها بعد آخر أكثر عمقا وخطورة مما يجري على المستوى المؤسسي. وأعني بها تلك الإنطلاقة الفكرية والفنية المذهلة التي لازال شباب يناير طليعتها ، والتي تعتبر بكل المقاييس ثورة ثقافية. هذه الثورة بعيدة عن صراعات السلطة التي تجري الآن. إنها حراك قاعدي يعكس تغيرات جذرية في أنماط التفكير. وهي التي ستغير المجتمع المصري. وهي أيضا تنتشر حثيثا في المنطقة العربية كلها ، مبشرة بربيع حقيقي يخرج المجتمعات العربية من ظلمات شتاء طال قرونا. إنها ثورة لا تسقط أنظمة حكم بشكل مباشر ، بل تحرر الإنسان وتمكنه من اكتشاف طاقاته وملكاته وشخصيته الحرة. تحرره من قيود كانت تشل قدراته وفرضت عليه أن يبقى متخلفا في عالم ينطلق ويتقدم من حوله. لأول مرة بدأ الإنسان المصري والعربي يحس أنه لم يعد خارج التاريخ. لقد فجر شباب يناير ثورتين وليس ثورة واحدة. عمقهما لا تطوله يد أي حاكم. ولا تنفذ إليه أضواء الإعلام المفتون بسؤال واحد هو من الحاكم القادم. الثورة الأولى على المستوى السياسي هي فرض الإرادة الشعبية كأمر واقع في الحياة السياسية لا يملك حاكم بعد الآن آن يتجاهله. ومن أهم آثار هذا التحول أن كل شيئ الآن في حراك مستمر. كل مايستجد يمكن أن يزول أو يتبدل في لحظة. فالإرادة الشعبية عنصر جديد لم يكن له مكان في فكر الحاكم أو آليات الحكم حتى الآن. ولا زال الحاكم يتصرف وكأنه يتحكم وحده فى توجيه الأمور. والثانية هى الثورة الثقافية ، ثورة الفكر والإبداع ، ثورة تحرر الإنسان من القوالب الجامدة. ومن الطبيعي أن تصطدم الثورتان بالقديم ومؤسساته وأسلحته ، وهو صدام حتمي. سيكون للأسف طويلا ودمويا ، فهذه حتمية التاريخ ، ولكنه محسوم سلفا. فالقديم البالي إلى زوال. أما الجديد المبدع فهو المستقبل. ولايسعني ونحن نحتفل بالعيد الثالث لثورة يناير إلا أن أنحني لشبابها إجلالا. ليس فقط لشباب مصر ، بل أيضا لشباب تونس الذين فجروا الشرارة الأولى وكانت روح ثورتهم تخيم على التحرير وتلهم شبابه.