حذرت منذ فوز دونالد ترامب برئاسة الولاياتالمتحدة من الإفراط في التفاؤل بقدومه، وذلك بسبب تصريحاته ومقترحاته التي تقدم بها منذ بدء حملته الانتخابية، والتي كان أكثرها فجاجة وعنصرية مقترحه بمنع كل المسلمين من دخول الولاياتالمتحدة. ثم ازددت تشاؤمًا بعد أن تعرفت على السيرة الذاتية للمستشارين المتطرفين العنصريين الداعين ل"تفوق الجنس الأبيض" (White Supremacists) للذين أحاط نفسه بهم، مثل كبير مستشاريه ستيف بانون ومستشاره للأمن القومي ووزراء الدفاع والخارجية، والسفير الصهيوني الذي قرر تعيينه ممثلا لبلاده في دولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يقوم شخصيا بقيادة حملات لجمع الأموال لبناء المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة القدس الشريف. ولأنه يريد إثبات أنه يعني ما يقول، وأنه سيضع شعاره "أمريكا أولا" موضع التطبيق، فلقد سجل ترامب رقمًا قياسيًّا في عدد القرارات التنفيذية التي قام بتوقيعها بعد ساعات فقط من حلفه لليمين. ولكن القرار الأكثر حماقة على الإطلاق، بجانب قرار بدء بناء جدار على حدود الولاياتالمتحدة مع المكسيك، كان ذلك الخاص بفرض حظر على دخول المواطنين من ست دول عربية وأفغانستان، بزعم أن هذه الدول هي الأكثر تصديرًا للإرهاب. ولم يكتف ترامب بمنع حملة التأشيرات الصالحة لمواطني هذه الدول، سوريا والعراق وليبيا اليمن والسودان والصومال وأفغانستان، بل قامت سلطات الأمن في المطارات الأمريكية بمنع من يحملون ما يسمى في أمريكا ب"البطاقة الخضراء"، أي مهاجرين على وشك أن ينالوا الجنسية الأمريكية بعد سنوات طويلة من الهجرة للولايات المتحدة. فوضى عارمة اجتاحت المطارات الأمريكية بسبب تكدسها بآلاف القادمين للولايات المتحدة، الذين تعرض الكثيرين منهم لأشكال إهانة غير إنسانية مطلقا وتقييد أيديهم وتفتيش أجسادهم، بما في ذلك المناطق الخاصة، على اعتبار أنهم جميعا مشتبه في أنهم إرهابيون بناء على ورقة وقعها ترامب. وما زاد الطين بلة أن بعض هؤلاء كانت طائراتهم في طريقها للولايات المتحدة عندما صدر القرار، ولم يكونوا يتوقعون مطلقا أن يلقوا مثل هذه المعاملة المهينة في المطارات لدى وصولهم إلى بلد قوامه من المهاجرين من كل دول العالم. عشت في الولاياتالمتحدة تسع سنوات، ورغم كل ما يتردد في بلادنا عن مؤامرات أمريكية وخطط جهنمية، فلقد وجدتها أكثر بلاد العالم ترحيبًا بالمهاجرين ومنحهم للفرص واحترامًا لثقافات الدول التي يأتون منها دون أدنى تدخل من السلطات المحلية. ففي أمريكا، وعلى عكس فرنسا مثلا، لم يجر حتى نقاش حول حق نساء المسلمين في ارتداء ما يشاؤون، حجاب أو نقاب، وكذلك حق الهندوس في ارتداء عمامتهم وإطالة لحاهم. في أمريكا لا يسأل أحد الآخر عن بلده الأصلي طالما وصل إلى هذه القارة البعيدة واجتهد في العمل وسعى لبدء حياة جديدة في بلد كان أساس تكوينه المهاجرين الفارين من الاضطهاد. ولأن هذا الأمر كان صادمًا للعديد من الأمريكيين، فلقد توالت ردود الأفعال الغاضبة، وتجمع المئات من المتمسكين بالقانون الأمريكي الذي يمنع التمييز بسبب الجنس أو الدين أمام المطارات ليطالبوا بالإفراج عن القادمين المحبوسين. كما أصدرت محاكم في ولايات عدة قرارات سريعة تأمر سلطات المطارات بالإفراج عن المحتجزين طالما كانت لديهم تأشيرات صالحة صدرت من القنصليات الأمريكية في كل دول العالم بعد شهور من الانتظار والفحص والتدقيق من قبل ما يزيد على 15 جهة أمنية. ولكن الأكثر غباءً في قرار ترامب على الإطلاق، هو ما ردده الأمريكيون أنفسهم في انتقاد هذا القرار، وأشاروا إلى انه لو أن ترامب كان جادًّا بالفعل في منع مواطني الدول التي تصدر الإرهابيين، فربما كان أولى أن يمنع المواطنين السعوديين لأن 15 منهم من بين 19 هم الذين قاموا بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، أو الشقيقة تونس التي تشير كل الإحصاءات إلى أن مواطنيها من بين الأكثر نشاطًا في الذهاب لسوريا والقتال لصالح تنظيم داعش الإرهابي، أو ربما مصر حيث نحن أيضًا، للأسف الشديد، لدينا كتائب كاملة من المقاتلين المنضمين لتنظيمات إرهابية كداعش والقاعدة. وماذا عن تركيا التي باتت تشهد الأعمال الإرهابية بشكل منتظم، أو الشيشان، وربما إندونيسيا، أو المغرب التي تبنى عدد من مواطنيها سلسلة الهجمات التي شهدتها عدة دول أوروبية مؤخرًا؟ ولكن الرد جاء من صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية التي قالت بوضوح إن رجل الأعمال المشرف على مسابقات الجمال الذي أصبح الآن رئيسًا لأمريكا تجنب فرض حظر على مواطني الدول التي تنشط بها شركاته الخاصة وأبراجه اللامعة. كما أن الدول التي تضمنها القرار لا نفط فيها ولا أموال يستطيع الرئيس الأمريكي أن ينعش بها شركاته ومصالحه. القرار اعتباطي وشديد الغباء، ولا يمكن أن يسهم في أي شيء سوى في زيادة حجم المواجهة والكراهية بين العرب والمسلمين، من ناحية، والولاياتالمتحدة من ناحية أخرى، إلى جانب تعميق ظاهرة الإرهاب، التي لا شك أننا كعرب ومسلمين نتحمل جزءًا كبيرًا من المسئولية لدحرها وهزيمتها. قرار ترامب احتفل به الإرهابيون من أعضاء تنظيمات داعش والقاعدة، واعتبروه تنفيذًا لما يسعون له منذ سنوات من تقسيم العالم إلى فسطاطين، وإعلانها حربًا مفتوحة بين المسلمين والدول الغربية الصليبية الكافرة، والدليل ترامب وقراره الأهوج الأخير. نعم قد يكون ترامب أقل اهتمامًا بإثارة ملفات حقوق الإنسان، كما كان يفعل سلفه باراك أوباما، الذي ودعته حكومتنا المصرية ب"كسر القلة" وراءه. ولكن مصائب ترامب وقراراته هي التي ستشعل المنطقة، إن لم يكن العالم بأكمله. لم يخيب ترامب توقعاتي، وبدأ على الفور في تنفيذ سياسات عنصرية قميئة لم يكن من المتوقع مطلقًا أن تأتي من دولة التعدد والحريات والحلم الأمريكي. ترامب عار على أمريكا.