لم يفز ترامب بالانتخابات فقط، إسرائيل هي الفائز الحقيقي، فمع قدومه للبيت الأبيض اكتسبوا حليفًا قويًّا، وأصبح الفلسطينيون يواجهون واقعًا مريرًا وعدوًّا صريحًا، فالإدارة الجديدة التي يقودها ترامب من غلاة اليمين المتطرف الذين يقدسون إسرائيل، ويؤكدون حقها في التفوق المطلق، دون أي تنازل، ويحتقرون الوجود الفلسطيني برمته، وقبل أن يخطو ترامب فوق أعتاب الرئاسة كان قد حدد موقفه، بادر الفلسطينيين بالعداء، أعلن عن تأييده لسياسة الاستيطان ودوام الاحتلال، وحاول مقاومة قرار مجلس الأمن، وشدد على اعتزامه نقل السفارة الأمريكية إلى القدسالمحتلة، وزاد على ذلك بأن اختار زوج ابنته "جارد كوشنر" اليهودي مستشارا له لشئون الشرق الأوسط، ولكن هذا الوضع الصعب ليس بجديد، ففي ظل الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم يكن الوضع أفضل، واستطاعت السياسة الإسرائيلية أن تصل إلى نوع من التمازج التام بينها وبين السياسة الأمريكية، وأصبح من الممكن استبدال المبعوثين الدبلوماسيين لكلتا الدولتين دون مشكلة، فالسفير الإسرائيلي في واشنطن "رود ديرمر" الذي نشأ وتعلم في ولاية فلوريدا يمكن أن يصبح سفيرا أمريكيا، وكذلك سفير ترامب إلى إسرائيل ديفيد فريدمان الذي يرتبط بشكل وثيق بحركة الاستيطان في الضفة الغربية يمكن أن يصبح أفضل سفير لإسرائيل يروج لسياسة نتنياهو في تشجيع الاستيطان. تحت إدارة ترامب سوف تسقط كل أقنعة العدالة التي كانت أمريكا تتظاهر بها، وستعلن عن دعمها المطلق لواحدة من أشد الحكومات الإسرائيلية عنصرية وتشددا، وستكون هذه الحكومة في أقصى قوتها في غضون السنوات القادمة، على الفلسطينيين أن ينسوا حلمهم، فالسلطة الهشة التي تمخضت عن اتفاقية أوسلو في عام 1993 واعتقد المسئولون أنها سوف تتطور سياسيا واقتصاديا بحيث تصبح بديلا حقيقيا لدولتهم القديمة، هذا الوهم الذي استولى على مخيلة بعض الفلسطينيين قد انتهى، فقد بني على فرضية غاية في السذاجة، وهي أن أمريكا سوف تفطن إلى أنه من مصلحتها الوطنية الحد من نهم إسرائيل لاقتناص الأرض وجعلها تتصرف بطريقة أكثر عدالة وتحضرا، وقد تبددت هذه الفرضية أيضا، وبالنسبة للمسئولين الفلسطينيين الذين جاؤوا من أوسلو والذين ما زالوا يصرون على مواصلة ما يسمى بالحكم الذاتي فإن ضررهم أكثر من نفعهم، لأنهم يجملون وجه الاحتلال ويؤكدون استمراريته أيضا، فقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي قامت أمريكا بتدريبها هي التي تقف الآن حائلا ضد كل أنواع المقاومة أو الاحتجاج أو التمرد ضد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، ويقال إنها أشد قمعا من جنود الاحتلال أنفسهم، فهي تقبض حتى على المدونين أو الذين يعترضون على شبكات التواصل الاجتماعي، وهي بذلك تكون معاونة لها وأداة من أدوات الاحتلال، والطريقة التي تمارس بها هذه السلطة سيادتها وتفرضها حتى على تكنولوجيا المعلومات توحي بالشكل الذي سيكون عليه الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية مستقبلا، دون أي حق في السيادة ودون قدرة على تقرير المصير. وبدون الدعم السخي والمتواصل للولايات المتحدة لم يكن ليستمر الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر نحو خمسين عاما الآن، يعد أطول احتلال في التاريخ الحديث، ويبدو واضحا أن أمريكا في عهد ترامب، وإسرائيل في عهد نتنياهو لن تغيرا هذه الصورة، أمام هذا الوضع لا يوجد أمام الفلسطينيين إلا اثنان من الخيارات القاسية، أولهما: هو الاستسلام التام لكل الشروط التي تفرضها عليهم أمريكا وإسرائيل والرضا بالحد الأدنى من الحياة والعيش بلا مستقبل ولا كرامة، وثانيهما: هو معاودة شحن أهدافهم الوطنية والبحث بشكل جدي عن أساليب جديدة لمواجهة القمع الذي يتعرضون له، لقد حان الوقت للتخلي عن تجربة الحكم الذاتي الفاشلة، وأن ينتهي ذلك الانقسام المأساوي بين غزة ورام الله، وأن تكون هناك أساليب جديدة لمقاومة الاحتلال بدلا من التعاون معه، وأن يفكر فلسطينيو الشتات في حشد الطاقات العظمى التي أصبحوا يمتلكونها وأن ينظروا لوطنهم ككتلة واحدة وليس كأجزاء متفرقة تحت قبضة إسرائيل، ولعل هذا يرغم القوى الكبرى على التفكير في أنه لا مفر من دفع الإسرائيليين للجلوس معهم، والتفاوض من أجل التعايش في سلام داخل الحدود الضيقة لهذه الدولة، ولا مفر من الجلوس في مراكز متساوية من حيث المواطنة كما حدث في جنوب إفريقيا، أن يجلس الجميع دون تعال ودون هيمنة جنس على الآخر، ولكن من أجل الوصول لهذه النقطة على الفلسطينيين العمل دون فرقة أو تشتت أو خلافات جانبية أو أطماع شخصية، وأن يأخذوا الدرس من العقود الطويلة التي قضوها تحت المهانة والاحتلال. وبرغم إدارة ترامب وأيامها السوداء، فإن هناك بعض علامات الأمل، بصيص خافت ولكنه موجود، هناك حالة من التحول في آراء الحزبين الجمهوري والديمقراطي وبدرجة ما في الرأي العام الأمريكي، هناك انتقادات لسياسات الدعم غير المحدود الذي تتلقاه إسرائيل من أمريكا، فقد بدأ يتسلل وسط ظلمة الانحياز الأعمى بعض من التعاطف مع الفلسطينيين وحقهم في الحصول على حريتهم. في ديسمبر الماضي قامت مؤسسة "بروكينج" بعمل استطلاع بين هاتين المؤسستين، وجاءت النتيجة أن 60% من الديمقراطيين و46% من الجمهوريين يرون أنه يجب اتخاذ إجراءات أشد ضد بناء المستوطنات اليهودية غير القانونية في الأرض المحتلة يمكن أن تصل لدرجة المقاطعة، وقد أجرى مركز "بول" مؤخرا استطلاعا جديدا بين الديمقراطيين الأقل انحيازا، وقد أوضح لأول مرة أن هناك نوعا من التساوي بين المتعاطفين مع الفلسطينيين والمتعاطفين مع إسرائيل، بل إن النسبة قد ارتفعت بين الليبراليين الديمقراطيين المتعاطفين مع الفلسطينيين (46%) عن المتعاطفين مع إسرائيل (26%). ربما مع مرور الوقت يمكن أن يخرج بعض صناع السياسة في واشنطن، مع يقظة ضمير بعض الأفراد، وازدياد موجة الذين يقاومون العنصرية والتطرف اليميني كما هو متوقع في عصر ترامب، لممارسة الضغط على ممثليهم المنتخبين وأن ترتقى السياسة الأمريكية أخيرا إلى مستوى المثل العليا المعلنة من الحرية والمساواة، ومحاسبة إسرائيل على انتهاكات القانون الدولي وحرمانهم للفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والإنسانية، ولكن كل هذا كله يعتمد على الفلسطينيين وعلى وحدتهم وقدرتهم على المقاومة، وربما تتدخل الأقدار ويغادر ترامب البيت الأبيض سريعا.