أميط اليوم عن قولى لثامًَا لزاميا، فقد جد الجديد ولا أخشى جهولا قد تعامى ولا يثنيه وعد أو وعيد. الحنين يكون إلى ماض، أما المستقبل فآتٍ. ولكننى أريد بعضا من الماضى فى مستقبلى. فهل السيسى إعادة إنتاج عبد الناصر؟ يشترك الاثنان فى أنهما تمثيل جيد لمؤسسة منضبطة وطنية، تعلمت على تأمين حدود مصر ومعرفة قيمتها، روحها مشروع وطنى بألوان الزمن المتغير. لكن الفارق مهم، أتى عبد الناصر وحركته بانقلاب عسكرى لاقى قبولا شعبيا مساندا له. أما السيسى فقد أتى تلبية لحركة شعبية فى الشارع فى أعقاب موجتين ثوريتين. لمن عاش أو لحق بفترة عبد الناصر يعلم أنه بالقدر الذى كانت هناك طموحات اجتماعية وقضايا قومية على جدول الإنجازات، كانت الحركة السياسية العلنية معطلة إلا من الاتحاد الاشتراكى وسيطرة الإعلام الواحد، وكان الخوف من العمل السياسى أو الحديث فيه هو المناخ المتوفر آنذاك. فى مقابل الحالى الذى يتسم به المناخ السياسى بفضل الثورة من كسر كل القيود وانتشار وسائل الإعلام والقدرة على الفعل السياسى والحديث عنه الذى ربما أيضا يفوق القدرات الفعلية. وما زلنا فى انتظار كثير من الهيكلة فى المؤسسات، وعلى رأسها الشرطة التى نحييها على مواجهتها للإرهاب، ولكننا لا يجب أن ننسى أن المطالبة قبيل 25 يناير كانت بضرورة إعادة تقييم الأداء والمهام، وخضوع الجهاز للرقابة القانونية بطرق أفضل تضمن سلامة الأداء وحقوق المواطنين. استطاع عبد الناصر محاصرة حركة الإخوان المسلمين بالقبضة الأمنية لما لديه من معرفة بخطورة هذا التنظيم وميوله التخريبية والاستخباراتية. أما الآن فقد أسقط الشعب بذاته هذا المشروع الفكرى الظلامى، بل بات الشعب بنفسه يقاومه أينما وجد، واستنجد الشعب فى ظل هذه المقاومة بجيشه لمواجهة هذا الغزو، وإن كان ظاهره من أبناء الوطن الواحد. ولبى الجيش بقيادة السيسى هذا النداء واصطف حاميا الشعب المصرى. هذا الفرق فى علاقة الجيش والشعب الذى أدخل فى المعادلة يغير من الصورة الكبرى للمشهد، فالشعب هنا هو الذى أدرك خطورة الإخلال بأمنه القومى وبات يضع أولويات التحرك. نعم مرت الثورة المصرية منذ بدايتها بأخطاء كثيرة أهمها أنها سمحت لكثيرين بالحديث باسمها، وهم ليسوا أهلا لذلك، ويقع الخطأ الأكبر على النخب والقوى السياسية التى كانت مترهلة من قبل قيام الثورة، والتى فشلت فى وضع مبادئ حاكمة ومنضبطة للحركة السياسية ومنها قضايا التمويل، حيث إن قطاعا كبيرا منها كان قد انزلق فى قبول التمويلات الأجنبية، ضاربا عرض الحائط بالحركة السياسية ذاتها لصالح مؤسسات أو مراكز «مدنية» تتيح لهم قليلا من الحركة وأحيانا بعض المنافع. مما سمح لكثيرين من بعدهم بالتفاخر بقبول التمويل والتدريبات الخارجية ليتم خلط العمل السياسى والاجتماعى والأهلى والحقوقى، أى خلط الحابل بالنابل، فكفر كثيرون بهذا كله، على الرغم من أننا أحوج ما نكون إليه ولكن فى ظل شروط مغايرة. ثم تستمر النخب فى تكرار أخطاء تشتيت الأصوات الانتخابية فى مراحلها الأولى، سواء بتعدد المرشحين أو الرهان على مرشحين غير مؤهلين. لنصل إلى المشهد، الفريق شفيق، ومرسى الجماعة. لتضرب الحركة النخبوية أكبر مثال على عجزها الفكرى والحركى، سواء بتفضيل مرسى الجماعة «المعروف بخططه الشيطانية على الأقل لهذه النخب»، أو بالمقاطعة وهى دليل على عجز كامل فى لحظة كان يجب فيها الاختيار. والقاعدة الذهبية تقول، ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولكنه كان زمن الصمم والتيارات الجارفة. ولأننا اليوم بتنا نعرف يقينا مدى ارتباك المشهد ودخول أطراف عديدة لركوب تلك الثورة، يجب أن نعترف أيضا أنه هناك استمرار لوجود أسئلة لا تزال بلا إجابات، شارك فيها المجلس العسكرى الأول. ونتمنى أن نجد لها إجابات فى أقرب فرصة. فالإجابات تشفى النفوس. ولأن العناية الإلهية كانت بمصر فقد قدر الله وما شاء فعل. وخضنا التجربة المريرة التى أظلت على مصر بغمامة سوداء نخرج منها الآن بشق الأنفس، وكاذب من يقول إن مصر يمكن أن تدخل فى حرب أهلية، فالشعب كله وجيشه فى مواجهة قلة موتورة إرهابية. فيأتى دستور مصر الجديد ملبيا كثيرا من طموح الوطن، وإن كنت منذ البداية تمنيت أن لا تخلو اللجنة من عديد من فقهائنا الدستوريين، وعلى رأسهم الفقيه إبراهيم درويش، لأن الدستور حرفة لسد الثغرات. ولكنه فى المحصلة النهائية دستور جيد هدفه المرور بنا من عنق الزجاجة ونحن شعب لماح. أحمد ربنا أن هذه الثورة لم يكن لها قيادة، لأنها فضحت كل قيادة وانتصرت الفطرة المصرية فى حسم كثير من المواقف. فندعو الله فى هذه المرحلة الشائكة أن تكون المحبة التى جمعت المصريين حول رجل آمن بشعبه إيذانا لمرحلة جديدة على مصر. ويظل الرهان على من سيأتى، أن يبدأ بتحقيق المطالب الأولى للثورة التى لم يتحقق منها شىء بعد، وهى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وكما قال الشيخ البرعى وموطنه السودان الشقيق «يا راعى همنا لزيارة أمنا مصر المؤمنة بأهل الله». ونحن نقول فى مصر «يا راعى أرضنا تولى أمرنا بأمر شعبنا فى مصر المؤمنة بأهل الله».