لم أفهم وقتها ما غمغمت به جدتى: - لم يحضر جنازة عمه.. راح يومها ليشيع جنازة نجيب الريحانى! تقصد ابنها.. أبى.. تسرح تستعرض ما قد يعطله.. كلهن حولى فى سواد، أعينهن دامعة فى صمت.. تتحرك أمى بينهن، عيناها دامعتان.. لم يُخفى السواد رشاقتها وشلالات شعرها كالليل.. عُدن مع الظهيرة.. مرهقات بعد أن واروا والدهن الثرى.. جدى.. يجلس الرجال أمام البيت، بينما يقام السرادق، المرأة الجالسة على الأريكة فى صدر الحجرة الكبيرة لا تكُف عن الحديث فى ميكروفون بصوت عالٍ، بجواره جهاز بمفتاح يشبه الراديو وله عين حمراء تخيفنى.. أستغرب من تطويح المرأة لرأسِها ذات اليمين وذات اليسار، ككُرة دوّارة فى قماطٍ أسود يقسم جبهتها.. لا تَراهُن، فعيناها متحجرتان.. للمرة الأولى أرى عمياء.. حَذِرة تتلمس بأصابع معروقة كوب الينسون الأصفر إلى جوارها فى منتصف صينية لامعة، تشير بإصبعها محذرة ليصمُتن.. لا يصمُتن، فترفع صوتها بنبرة زاجرة: - سمعينى يا مؤمنة.. طيب وحدوا الله وصَلّوا على الحبيب.. تتداخل أصواتهن وصغارهن.. تكمل جدتى حديثا هامسا مع جدتى الأخرى.. زوجة المرحوم، بدا عليها إرهاق مرضُهُ والحزن.. صامتة.. لا تخفى فى صوت جدتى نبرة الاعتذار عن عدم ظهور أبى حتى الآن: - تلاقى وراه شغل ضرورى.. لكن أكيد ها يجىء بالليل.. رُحتُ ألعب مع أولاد خالاتى فى ساحة البيت فى ضوء السرادق الكبير. دخل الليل، تعبتُ.. غلبنى النوم، أرحتُ رأسى إلى جوار مجلس جدتى الحنونتين.. حضر أبى متأخراً.. يتلو الرجل «يا أيتها النفس المطمئنة...».. حفظتها فى المدرسة، اصطحبنا أبى إلى منزلنا، ستبيت أمى مع أمها وأخواتها. فى الطريق يُمسك أبى بيد أخى الأصغر، بينما تمسك جدتى بيدى.. لم تخفِ جدتى النبرة الزاجرة له على غيابه فى مناسبات هامة كثيرة.. رد عليها باقتضاب بأنها ليلة افتتاح معرضهم السنوى وبحضور الوزير ونُقاد وزوّار أجانب، وأنهم كانوا فى تجهيزات وتعليق لوحات وتوزيع الإضاءة على التماثيل منذ الصباح.. هدأ الحديث، سألتُهُ مستفسرًا «مين نجيب الريحانى ده؟ هو قريبنا؟».. نظرفورا إلى جِدتى.. ابتسم ابتسامة خفيفة، وراح يحكى تلك الحكاية القديمة.. الخيول البيضاء الثمانى تجر العربة البيضاء ذات الحواف المُذهبة.. جماهير حاشدة تبكى وتلوِّح بالمناديل مودعة، يتحركون بلا وعى خلف العربة، ذهبَ وزملاؤه ليلتها إلى السرادق وسط البلد، حيث مُلتقى كبار أهل الفن.. قال أسماء كثيرة أعرف بعضهم من الأفلام الأبيض وأسود.. لم أنم ليلتها.. تشاغلنى الخيول البيضاء التى حكى عنها.. أسمع حمحماتها هادئة تسرى مع رشاقتها كترنيمات إلى السماء.. مثل «أليس» متجهة فى عربتها إلى «بلاد العجائب» فوق.. إلى السماء. قمتُ من فراشى متجها إلى غرفته.. سألته عن الخيول البيضاء.. رايحة فين؟ أخفى سيجارته وزهقه.. قام إلى أوراقه، أحضر الدفتر الكبير.. أعرفه «إسكتش».. يعرف كيف أقتنع، راح يحكى لى ويرسم رحلة الخيول بقلمه الفحم.. ورأسى يسافر معهم إلى أعلى.. تبادر إلى ذهنى هل سيلقاه جدى هناك.. فى السماء؟ حضر أخى أيضا، كان يسمعنا.. نمنا ليلتها إلى جواره.. أخفى أبى لوحة الخيول تصعد إلى السماء بين أوراقه وإسكتشاته.. قلتُ فى نفسى «سألحق بجنازة عمى بعد انتهاء جنازة ثومة.. الست»..خرجتُ مبكرًا ولم أخبر أمى.. نحزن على طريقتنا، حزن نادر نبيل.. تملؤنا أغنيات أم كلثوم بحب شفيف باكٍ مع إعلان الحداد عليها منذ أربعة أيام.. وحتى موعد الوداع ظهر اليوم. يسود الوجوم قاعات المحاضرات، تلمع الأعين بالدموع مع تذكر مقاطع من أغانيها تتناثر من الكافيتريا وأكشاك الكتب.. اضطربَت بروفاتنا فى الاستعداد لمسابقة الموسيقى.. تجمعنا قبل الظهيرة فى قاعة مسرح الجامعة لنخرج معًا لنلحق بوداعها الأخير. حروف الصحف بالسواد رسمت الخبر القاتم، وأوضحت مسار الموكب فى وسط البلد.. زحام مهيب للمحبين وبكاء حار.. نحيط بها وسط الحشود رافعين صورها.. وصلتُ إلى سرادق عزاء عمى ليلا.. ما إن جلستُ إلى جوار أبى حتى تلا الرجل «يا أيتها النفس المطمئنة...»... التفتَ إلىّ أبى، لم تخف نبرته الزاجرة لى على غيابى فى مناسبات هامة كثيرة. ظل صامتا فى عودتنا.. نتبادل النظرات.. أراهُ جالسا فى ملابسه المنزلية.. يرسم الخيول البيضاء تحَمحِم مع رشاقة الحركة صاعدة إلى السماء. طيلة تلك الليلة، رحت أقلب فى الأوراق والإسكتشات.. مخبأة أسفل الأريكة فى غرفة مرسَمِه.. داخل صناديق يغمرها هى أيضا التراب.. أجلسُ فى مدخل دار المناسبات.. لم أعد أقوى على الوقوف.. أستندُ إلى عصاى عندما يصل أحد المعزّين.. كانت عصاهُ، وقد رحل اليوم.. راحة من حياة حافلة بالإبداع والمتاعب ومرض أخير.. أرقب السيارات القادمة.. سيارة ابنى حديثة بيضاء اللون.. قال فى الهاتف إنه سيلحق بنا.. لا أخبار اليوم إلا عن جنازة نجيب محفوظ.. مال جو الليلة إلى البرودة.. أصابتنى رعدة، لم تلتقط عيناى بعدساتها وصول سيارته.. برشاقة قفز الدرجات الأربع ليستقرإلى جوارى، بينما يتلو الرجل «يا أيتها النفس المطمئنة...» ينظر إلىّ بحذر.. لا أنسَ عينيه وهو يعلق على لوحة الخيول البيضاء الراحلة فى طريق ينحنى إلى الأعلى.. إلى السماء.. كان صغيرًا فى حِجْر جده.. يقلبان الأوراق.. التفتَ إلى جده فجأة.. يسأله «هو الحصان رايح فين..؟» ضحك جده ثم التفت إلىّ، ربتَ على كتفه وقال له «اسأل أبوك».. لم أخفِ نبرتي الزاجرة له على غيابِه في مناسبات هامة كثيرة..