أسرة مكونة من عشرة أفراد، عندها أربعة قراريط أرض، هى مصدر دخلها الوحيد. الأسرة دى عايشة فى قرية، والأبناء كلهم أطفال، أكبر واحد فيهم عنده 15 سنة. دخل محصول الأربعة قراريط مايكفيهمش. مهما عملوا مش هينفعهم، جات لهم سيدة أعمال وقالت إن القراريط الأربعة دول فى مكان جيد جدا لمشروع. وإنها ممكن تشاركهم، هم بالأرض وهى برأس المال. وقدمت دراسة للمشروع هتحتفظ بالمنتج الزراعى، وهتضيف له ماشية وآلات ألبان وأجبان وتعليب ونقل لمراكز توزيع. فيه هنا طريقتين للتفكير، إما رفض المشروع «مبدئيا» بناء على الدعاية ضد «الاستثمار وأصحاب الأعمال»، وبناء على «أخلاق القرية» وعواد باع أرضه، والمحافظة على الأرض، إلى آخره. وإما دراسة المشروع، حسب «جدواه الاقتصادية». وعرضه على محامين يضمنون حق أصحاب الأرض، وبالتالى رفضه إن لم يكن له جدوى اقتصادية، وقبوله إن توفر فيه شرطا الجدوى والضمانات القانونية. أى الطريقتين أحرص على مصلحة هذه الأسرة؟! طيب تعالى ناخد الموضوع خطوة أبعد. نتخيل إن الأب رفع الشعار ورفض المشروع مبدئيا، واستمرت الأسرة فى المعاناة. هل سيكون الأب «حافظ على الأرض؟». من فضلك فكرى فى رأيك. إنما بالنسبة لى أبدا. ليه؟ لأنه غالبا مش هيقدر يستمر على كده. ولو دخلت «كردون مبانى» هيبيعها على طول. «دا اللى حاصل على أرض الواقع». أو هيجرفها ويعملها طوب أحمر «ودا برضه اللى حاصل على أرض الواقع»، أو لا هيعمل دا ولا ده، وعياله هيشحتوا وفرصهم فى الحياة هتقل. علشان الأرض دى تجيب فلوس على حالتها الراهنة، كأرض زراعية، لازم نغلى أسعار المحاصيل. وبالتالى أسعار المحاصيل دى من طماطم وخيار هتغلى على المواطنين المستهلكين. النكتة هنا إن التيارات السياسية اللى بتشجع الأب على «رفض الاستثمار»، وتغذى شكوكه «بدل أن تشغل نفسها بالبحث عن ضمانات تحمى حقه» هى برضه اللى هتيجى تتاجر بفقر أولاده، وتصرخ «هل ترون ماذا فعلتم فى أبناء الفلاحين؟». أو هتصرخ «إنهم يجرفون الأرض الزراعية»، «إن الأسمنت يأكل التربة». وفى حالة غلاء المحاصيل هتطلع بيان صحفى طويل عريض: «طبق السلطة يساوى ثروة». الحاجة الوحيدة اللى مش هيعترفوا بيها إنهم هم السبب فى كل دا. لأ وإيه، سيدة الأعمال اللى كانت هتستثمر فى الأرض دى ممكن جدا تتحول إلى التصدير والاستيراد، وتشترى موز أو طماطم أو خيار من بره، وتطرحه فى السوق وبأسعار أرخص من أسعار المنتج المصرى. فهيبقى قدامنا خيارين: إما نقفل السوق ونمنع استيراد الخضراوات الأرخص، يا إما نفرض ضرائب أكثر على الاستيراد، وفى كلتا الحالتين نكلف المواطنين المستهلكين أعباء أكثر فى شراء «طبق السلطة»، يا إما نسمح بالاستيراد، والمحاصيل المصرية تخسر فى سوق المنافسة، والمزارعون يدفعون الثمن. طيب ليه. ما نشجع الاستثمار فى الأرض الزراعية، وبكده نحافظ عليها ونزود قدرتها الإنتاجية، ونزود العائد عند الفلاح والفلاحة، ونشجعهم يحتفظوا بأرضهم ويستمروا فى زراعتها. طيب. أنا غرضى إيه من مقالات عدالة أم إعالة؟ اللى كتبتها واللى لسه هاكتبها من وقت للتانى. غرضى بسيط جدا، إنى أقول إن رفع الشعار لا يعنى امتلاك الحل، دا مجرد تعبير عن «الرغبة». إنما لما تيجى تناقشى السياسات، أو الإجراءات، ممكن جدا جدا جدا تكتشفى إن الإجراءات المقترحة تقود إلى عكس الشعار المرفوع تماما، وأنها مضرة بمن تدعى أن الشعار لصالحهم. ودا ينطبق، أكثر ما ينطبق، على شعار «العدالة» الاجتماعية. ممكن خطة فريق رافع الشعار تؤدى على أرض الواقع إلى خلاف ذلك تماما، إلى خسارة الأفراد، وإلى تراجع الرخاء فى البلد، على الجميع. وبالتالى تيجى نفس التيارات اللى غرقتنا باختياراتها الخطأ وتطالب الدولة ب«الإعالة»، تحت مسمى العدالة. والدولة التى تعيل تتحكم. فلا نطلع بعدالة، ولا نطلع بديمقراطية.. دى قصة دول أوروبا الشرقية كلها قبل سقوط جدار برلين. معظم رافعى شعار «العدالة الاجتماعية» تيارات تريد لمصر أن تمر بنفس التجربة، بدل أن نتعلم الدرس.