السطور التي ستقرؤها حالًا كتبتها ونشرتها هنا قبل شهور قليلة، لكنها التعليق الوحيد الذي سكن رأسي عندما جلست صباح أمس لأكتب، بينما كانت تحاصرني صور أحدث حلقات مسلسل الإرهاب والإجرام والتوحش الذي صحونا فجر أمس على نبأ وقوعه في مدينة المنصورة .. وأرجو من القراء الأعزاء قبول اعتذاري عن اضطراري، بسبب شدة الحزن واللوعة، إرجاء الحلقة الختامية من «حوارات بيروت» إلى بعد غد، إن شاء الله.. تراكمت بطول مسيرة الإنسانية الطويلة تعريفات لا حصر لها تحاول الإحاطة بظاهرة الكائن البشري ، أكثرها ظرفا ولطفا وعمقا أيضا هذا التعريف الذي يقول إن الإنسان يختلف عن الحمار (لا مؤاخذة) في أن الأول كرمه المولى تعالى، عن أخيه الثاني بالعقل وذاكرة مركبة تحفظ وقائع التاريخ وحوادثه مع قدرة على استخلاص الدروس والعبر، وبسبب هذا الفارق الخطير فإن آخر حمار في الدنيا قد يموت ويروح في ستين داهية بغلطة أو حماقة كان قد ارتكبها أول حمار سعى في الأرض مرحًا.. يعني باختصار ممكن حضرتك تقول وانت مرتاح البال ومتهني إن «الإنسان حمار لديه ذاكرة ويحمل على كاهله سجلا تاريخيا ثمينا وثقيلا». ومع ذلك، ولكي لا نتجنى ونظلم إخوانّا الحمير كثيرًا لا بد من الاعتراف بأن الخالق سبحانه قد أفاء ومنَّ على هذه الكائنات المسكينة بشيئين أو ميزتين يندر وجودهما في العديد من البشر، أولاهما الصبر والجلد، و ثانيتهما الطيبة وانعدام القدرة والرغبة في الإيذاء.. كما لا يجب أن ننسى أن الحمار ليس خاليا تماما من مخزن الذكريات، لكنه وعاء بدائي يحتفظ فقط بالوقائع والخبرات ذات الطابع الحسي التي من نتائجها المشهورة تعوِّد أي حمار على السير بصاحبه في طريق معين آليا ومن دون توجيه، لأنه مشى به عليه ألف مرة.. أو أقل قليلا. لست أريد ولا أنا مؤهل أصلًا للإفتاء في علم أصل الأنواع والكائنات وطبائعها وخصائصها المختلفة، وإنما أكتب هذه السطور من باب التذرع، أو بصراحة «التلكيك» واختراع مناسبة غير مملة للحديث مجددا هذا اليوم عن الست عصابة الشر السرية التي حكمتنا بالعافية والبطلان لمدة سنة سوداء كاملة قبل أن يرسلها الشعب المصري إلى الجحيم ويمسح عارها من على جبينه بثورة أسطورية.. والحكاية أنني وكثيرين غيري لاحظنا أن هذه الست (مع عظيم الاحترام والاعتذار لكل إناث البشر وسائر المخلوقات) إضافة للشرور والعربدة والإجرام، تبدي وتظهر يوميا آيات معجزات من الاستحمار العقلي والسلوكي لعل أخطرها وأشدها بروزًا ووضوحا أنها تتصرف وتفكر (مع الاعتذار أيضا للتفكير) وكأنها أول عصابة فاشية في التاريخ، ومن ثم تراها حضرتك تعيد بخيابة وبلاهة إنتاج أحط وأغبى ارتكابات الفاشيين القدماء وحماقاتهم وجرائمهم الشائنة غير دارية ولا مدركة للعواقب الوخيمة التي سترتد وبالًا عليها هي نفسها، عاجلًا وليس آجلًا.. حتى في ظل حقيقة أن المجتمع والناس يتكبدون ثمنا فادحا كان ممكنا عدم دفعه لو لم يختبروا ولا ابتلوا بهذه المصيبة السوداء المسيّحة. والحق أن كل مشروع إجرامي فاشي مر على المجتمعات البشرية عربد ووزع جرائمه في كل اتجاه.. صادر الحقوق والحريات، وأشاع الظلم وثقافة الخوف، وقوّض دولة العدالة والقانون، وجاهد للسطو على أدمغة جحافل البشر الغلابة البسطاء واستلاب عقولهم وتشويه وعيهم، وربما أرواحهم أيضا، ثم في النهاية يسقط في شر أعماله وجرائمه ويذهب في ستين داهية ويستقر في قاع صفيحة زبالة التاريخ. غير أن بعض الفاشيات كانت من النوع الذي أكمل تعليمه فاهتمت بمنح نفسها بعض أسباب القوة وشيئا من مساحيق الزواق وحاولت أن تقدم لشعوبها المنهكة شيئا من الإنجاز المادي في أي مجال، لئلا تعجل بقضاها وتفاقم مشكلتها الرهيبة الأصلية وتثقل موازين جرائمها بالفشل الذريع والخيبة القوية فتصير شرًّا مطلقًا خالصا ونقيا يجعل حتى الحجر يتململ، ويحرض أشد خلق الله غلبًا وخنوعًا واستسلامًا على الغضب والتمرد.. فالحمير وحدها هي التي لا تفهم أن البؤس والعدم قد يعطلان قدرة البشر على التفكير، لكنه لا يخمد لهيب الغرائز، بل ربما يؤججها ويشعل نار الشعور بالحرمان الذي هو أقوى أسباب الثورة. ولأن الفاشيين المجرمين بتوعنا- من ستر ربنا- حمير متوحشة، فإنهم لم يكتفوا بسجلهم الأسود وشرورهم وأفعالهم الدنيئة وهم في السلطة، وإنما زادوا عليها بعد الخروج فواحش وجنايات بشعة ورهيبة، لا تبدأ بالقتل والتدمير والتخريب ولا تنتهي بالخيانة الوطنية في أكثر صورها انحطاطا وأشدها جلبًا للأذية.. لهذا نحن نعيش الآن لحظة نادرة ومحزنة جدا، إذ نرى الفاشيين الحمير يتآكلون وعلى وشك الانقراض والطرد نهائيا من مجتمعنا ودنيانا كلها بالجسد، مع أننا لم نكن نريد سوى خروجهم من السياسة فحسب!