كانت مجرَّد نظرة تبدو للوهلة الأولى عابرة ولا تشى بشىء محدَّد، فهى بين فتاتين شقيقتين، وبعد أكثر من ساعة تكتشف أنها كانت هى المفتاح وسر الشفرة بعد أن أقدمت الفتاة الصغرى على الانتحار. تلك هى السينما التى تُومِض فى لحظة ما داخل مشاعرنا ولها لسعة شمس الحقيقة. ما الذى يتبقَّى فى الذاكرة مع مرور الزمن من الأفلام التى نشاهدها فى المهرجانات؟ هل هو الفيلم الحاصل على الجائزة؟ ما الجائزة؟ ألا تعبِّر فقط عن مجرَّد رأى عدد من السينمائيين يعلنون النتيجة بعد جدل وأحيانا صراع تختلف درجة شدته؟ وفى العادة فإن الأمر لا يخلو من مؤثرات خارج النص تلعب دورها فى توجيه مسار الجوائز. الفيلم الذى يعيش بعد إسدال الستار عن الحدث، هو الجدير بأن أقدمه للقارئ، رغم أنه لم يحصل على جائزة، مثل الفيلم اليونانى «آنسة العنف» الذى عُرض فى قسم «السينما فى العالم» بمهرجان دبى خارج الإطار الرسمى. الأحداث تبدأ يوم عيد الميلاد الحادى عشر لطفلة تعيش هى وعائلتها فى بيت الجد، نرى الأم وثلاث بنات وطفلًا، الجد يقفز سعيدًا ويراقص أحفاده، ثم يصدمنا رحيل الابنة عندما تُلقِى بنفسها من الشرفة. قبل الانتحار نتلمَّس نظرة بين الشقيقتين لا نفهم شيئًا منها على وجه اليقين، إلا أنها تُثِير لدينا النهم، ونلمح ابتسامة على وجه الطفلة المنتحرة كأنها تُعلِن انتصارها. الفيلم مأخوذ عن واقعة أتصورها تحمل الكثير من الحقيقة رغم غرابتها، أحالها المخرج الذى اشترك أيضًا فى كتابة الفيلم أليكساندروس أفرانس، إلى تحفة فنية جذابة، رغم العنف النفسى الذى يقع على كاهل المتفرج، هذا الرجل أو الأب أو الجد، فلا تدرى على وجه اليقين من هو فى الصفات الثلاث، وربما كان أيضا هو الثلاثة معًا، نشاهده حزينًا وهو يحتفظ بالكرسى الخاوى للحفيدة المنتحرة، وأمامه على المائدة بقايا تورتة عيد الميلاد، ولا شىء يحدث سوى تلك النظرات التى يتبادلها أفراد الأسرة، التحقيقات التى تجريها النيابة لا تحمل إجابات سوى أن الطفل أصغر أفراد هذه العائلة، يُشعِرهم بقدر من الغموض، ويتلقَّى صفعات من شقيقته التى تكبره بعام أو اثنين، بناءً على تعليمات الأب أو الجد، حتى تتفجر مشاعرنا غضبًا بسيل من المشاهد المزعجة، الرجل يؤجِّر ابنته للرجال ويذهب إلى بيوتهم ويساومهم على الأجر، وهو بعد ذلك يمارس مع ابنته الجنس، ولا تدرى هل هؤلاء هم أبناؤه من ابنته أم من آخَرين، بعدها يختار ابنتها الكبرى ليؤجِّرها لأكثر من شابّ ويساوم على الأجر، وبعد أن تطالب بنصيبها يصفعها، ولا تملك سوى أن تخبره بالحقيقة، وهى أنها حذّرَت شقيقتها من المصير الذى ينتظرها عندما تبلغ الحادية عشرة، لهذا انتحرت، ويدرك المشاهد سر هذه الابتسامة التى رأيناها فى بداية الفيلم، لهذا يسارع بتقديم أصغر أطفاله، التى لم تبلغ التاسعة بعدُ، للرجال. النظرات لا تتوقف، والحوار القليل لا يتجاوز كلمة هنا أو هناك، ونتابع فى اللحظة الأخيرة الرجل وهو يتناول الآيس كريم مع زوجته، وبعد الانتهاء نراها وهى تحرص على تلميع السكاكين، وفى اللقطة التالية نشاهد الرجل أو الأب أو الجد غارقًا فى دمائه ونظراتُ أفراد العائلة تؤكِّد أن الجميع تَوَحَّدُوا على طعنه حتى الموت. لماذا كل هذا الصمت الطويل الذى يسيطر على الشريط السينمائى؟ ولماذا الإذعان للرجل؟ البعض يفسر ذلك بأن الفيلم ينتقد الخضوع المطلق للحاكم وأنه يفضح الديكتاتور، تُشعِرنى مثل هذه التحليلات بمقولة لإرنست هيمنجواى صاحب رواية «العجوز والبحر» عندما بدأ النقاد فى إضافة الكثير من الزخم الفكرى على روايته على اعتبار أن الصياد عندما خرج من البحر إلى الشاطئ، وهو يحمل الهيكل العظمى للسمكة الضخمة فى نهاية الرحلة، كان يعبِّر عن مصير الإنسان فى نهاية مشوار الحياة، وأن ما تَبقَّى فى يد البحار هو المعادل الموضوعى لرحلتنا فى الحياة، كل هذا اعتبره هيمنجواى مجرَّد زبيب يضعه النقاد على قطعة الخبز لمنحها مذاقًا يرونه أكثر جاذبية، ولكنه لا يعبر عن الحقيقة، فقط هو كان يريد أن يُقدِّم للقارئ قطعة أدبية. وهو ما أراه أيضا فى محاولة إضفاء زبيب سياسى للفيلم اليونانى، إنها السينما التى برع المخرج فى تقديمها لأن النظرة فقط هى التى تسيطر على الحدث، وهى الشفرة التى تقودنا لنعايش حالة سينمائية تتجاوز ضراوة وفظاعة وفظاظة الحكاية، فقط نتابع ونتأمل، والتكوين الدرامى والتشكيلى والبصرى والنفسى وبخاصة فى جلسات المائدة، لنجد أنفسنا بصدد رحلة سينمائية مدهشة لفيلم غير كل الأفلام.