سمعت أعمال أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام قبل أن أعرف شكلهما بسنوات طويلة جدا، فى ليالى الشتاء، وفى منتصف السبعينيات تقريبا، كانت هواية أبى أن نلتف حول الراديو، من لندن إلى مونت كارلو، وصولا إلى إذاعة الشعب البائدة حيث نستمع إلى سيرة أبى زيد الهلالى، يرويها شاعرها وحافظها الفذ جابر أبو حسين، بشرح وتعليق عبد الرحمن الأبنودى. فى أيام كثيرة أخرى، كان يتوقف عند محطتين تبثان من سوريا وليبيا، إحداهما محطة اسمها «صوت مصر العربية» من دمشق. شخصيات مصرية كثيرة منشقة تنتقد سياسة الرئيس السادات، أما المحطة الليبية فقد كانت تخصص فترة مصرية لنفس الغرض، بالإضافة إلى مهمتها الأولى وهى بث خطابات القذافى، كان أبى يعتبرها فقرة كوميدية أفضل من حواديت قبل النوم. صافحَت أذنىَّ لأول مرة أغنيات الشيخ إمام ونجم، أذهلتنى الكلمات والألحان، وحتى طريقة الغناء البسيطة، لم يكن أبى يتوقف كثيرا أمام التحليلات والتقارير، لكنه كان يستمع إلى الأغنيات بشغف واضح، سكن نجم فى قلبى قبل أن أكتشف صورته، وقبل أن أقرأ قصة حياته، عندما تسمع أشعاره أو أغنياته بصوت الشيخ إمام، تستعيد عصرا بأكمله، ومن بين عشرات الأغانى تستطيع أن تتعرف على أعمالهما. فى مرحلة تالية، قرأت كل أشعاره مكتوبة، كان لى صديق فى الجامعة يعشق تجربة نجم، أهدانى دواوينه، الغريب إننى حتى تلك المرحلة، لم أكن قد رأيت صورة واحدة للشاعر الكبير، ربما لأن خيالى كان يرسم له أكثر من وجه، كلهم يمثلون أشخاصا بسطاء من أولاد البلد، مع كل قصيدة يظهر لى نجم جديد، يؤنسنى بخياله وجسارته وجرأته وفاجوميته، لم أستغرب مظهره عندما شاهدت صورته لأول مرة، يضحك أصدقائى عندما يعرفون أنها كانت صورته فى مقهى وادى النيل بالتحرير بعد إعادة افتتاحه، إثر عملية إرهابية جبانة شهيرة. لا شىء يشبه أحمد فؤاد نجم مثل أشعاره، ولو أننى رأيته فى الشارع قبل أن أعرفه لقلت له: «أنت أنت صاحب دلّى الشيكارة وجيفارا مات».. وأنت أنت الذى اخترت أجمل اسم لوطنك «بهية».. وأنت أنت الموهبة العظيمة التى لم تصنعها حياتك.. لكن حياتك وأحداث عصرك تآمرت لكى تكون فى خدمة موهبتك. طول عمرى مفتون بهذه الفلتات المصرية العابرة للأزمان، كان نجم عندى وما زال أحد شواهدها، أعتقد أن الراحل الكبير لويس عوض كان على حق عندما قال إن شعراء العامية يكتبون بطريقة مثقفة ومنقحة إلا أحمد فؤاد نجم لأنه يكتب كما يحس بالضبط، وكأن سلكا رفيعا قد امتد من قلبه إلى يده، قوة نجم فى هذه الوحدة الشعورية المكتسحة التى تنتقل إليك كاملة، مهما اتفقتَ أو اختلفتَ حول موقفه السياسى. عظمة نجم فى تلك الأصوات المختلطة والممتزجة فى قصائده: سخرية الأراجوز اللاذعة، وحكمة الجدات، وعروض المحبظاتية الجريئة فى الشوارع، وجينات بيرم والنديم، وبساطة الغلابة، ومكر الفلاحين، وشجن الأمهات عندما تتذكرن الماضى، لا شىء مصنوع، لا شىء فالصو أو مزيف. أسوأ قراءة لنجم أن يصنَّف كرجل سياسة، نجم أهم من ذلك بكثير، إنه شاعر كبير شهد على نفسه وعلى زمنه. تطربنى عبارة محمود حسن إسماعيل الجميلة فى وصف نجم عندما قال ليوسف السباعى: «ناشدتُكَ الله.. هذا شاعر». كثيرون تمردوا ورفضوا وعارضوا وسجنوا مثل نجم، لكنهم لا يستطيعون أن يكتبوا حرفا مما كتب، قيمة نجم فى أنه قال كلمة «لا» بفن فأطرب وأمتع، هذا المدخل السياسى ظلمه كثيرا، وصرف الناس عن شعره الرومانسى والوصفى البديع، نجم عندى شاعر رومانتيكى ومثالى مذهل، مفهومه للبطل (من جيفارا إلى عبد الناصر وهو تشى منه)، ورؤيته للوطن وللحب وللجمال شديد الرهافة والحساسية، قصائده عن وطنه غزلية وملهمة، لا مثيل لصورة مصر الحبّالة الولادة البهية الجميلة فى كل عين فى أشعاره، الوطن عنده امرأة، والمرأة لديه هى النعيم والحياة. ليس مطلوبا من أى شاعر إلا أن تكون أشعاره مرآة لنفسه وحياته، وأن يكون قلمه امتدادًا للسانه، وأن يقول كما يحس، وأن لا يكتب إلا عندما يمتلئ بصوته الداخلى، وقد كان نجم المثال الأوضح لكل ذلك، ليس صحيحا أن يكون دافع الإبداع تعبيرك عن وجدان الأمة، وهذا الكلام الضخم، نعم هناك وعى عند الكتابة، ولكن دافع الشعر ذاتى بالأساس، رغبة عارمة فى أن تقول حتى لو كان الثمن هو الموت أو السجن. عندما قرأت لنجم روايته لقصة حياته، اكتشفت أنه وضع كل ثقافته المقروءة والمباشرة مع الناس فى خدمة شعره، كان واعيا تماما بمعنى الشعر وخطورة موهبته، ليس هناك ما يجسد هذا المعنى مثل قصيدته التى يقول فيها: أنا الأديب أما اتكلم مابخليشى لأنى جاهل وفاجومى ومخى مافيشى وأى تغيير فى حياتى مايتعبنيشى وأنا اللى قولى على نولى مش من برَّه الله الله يا بدوى مش من بره أبدأ كلامى عن الأشعار واللى زانوها بيرم وخيرى وكل الناس اللى صانوها أما الكلاب عند الجواسيس واللى خانوها فدول كلاب وما ينذكروش هنا بالمرة الطبل غير الشعر يا واد ماتهبلشى وأى شخص يكون شاعر ما يطبلشى يا تقول كلامك من جواك يا متقبلش الله يرحمك يا عم نجم... كان قوله من نوله.. مش من برَّه.