لو أعدنا كتابة الدستور عشر مرات فى الوقت الراهن فسوف تظل مادة المحاكمات العسكرية كما هى أو أسوأ. كان بإمكان من فى لجنة الدستور من «قوى مدنية» -حسب عددهم- أن يوقفوا المادة تماما. لكنهم كانوا يعلمون أن هذا معناه انسحاب ممثل المؤسسة العسكرية من اللجنة وانهيار العملية بأسرها. طبعا لو كان غرضك تفجير المسار الحالى فهذا مآل مناسب جدا. لكنه، غالبا، لم يكن ليلغى المادة. الإخوان وهم فى وضع أقوى سياسيا لم يستطيعوا إلغاءها. وأى تشكيلة سياسية مختلفة حاليا لن تستطيع. يا صديقتى الوضع السياسى الحالى لم يستطع الوقوف أمام تهديد «حزب النور» بالانسحاب، فما بالك بانسحاب المؤسسة العسكرية.. ثم إن المؤسسة العسكرية حاليا تنال عطف الشعب وتأييده، لأنه يراها معرضة لهجمات إرهابية، ومهددة بها. حتى أشد المعارضين لمحاكمة المدنيين أمام محكمة عسكرية يعلمون أن التوقيت ليس فى صالحهم للسبب المذكور، ولأن المؤسسة العسكرية ليس بوارد الظهور -حاليا- بمظهر من يفرط فى أى من «مكتسباتها»، فهى تعتقد أن هذا مضر سياسيا، ومضر عمليا، ومضر للروح المعنوية لأفرادها، ومفيد لمن يشنون هجمات ضدها، ومن يمهدون لهم. قلت ما سبق لكى ألفت النظر إلى أن المادة التى أخذت أكبر قدر من التغطية الإعلامية ليست فى الحقيقة المادة «المعضلة» سياسيا. بمعنى أن سياسيينا اختاروا أن ينبشوا بأظافرهم فى «الصخرة»، فاستنزفت جهدهم مقابل مكاسب ضئيلة. وجهوا الكهرباء نحو اليافطة، وسابوا البيت كله يقلب يعدل. والسبب فى ذلك طبعا أنها مادة تحظى بشو إعلامى كبير، واهتمام النشطاء، وهذا ما يحرك أحزابنا. أما الشعب.. يا عينى عليه، يا عينى عليه! الكارثة فى هذا الدستور أن سياسييه لا ينتمون إلى أحزاب قوية، وبالتالى كانت مهمتهم النفخ فى دور الأحزاب فى أثناء كتابة الدستور، بينما الدور نفسه ليس موجودا فى الحقيقة، على أرض الواقع. وإلا فأين هذا الحزب الذى يمكن أن يحصل على أغلبية مطلقة تريح الرئيس حين يكلفه بتشكيل الحكومة؟ غير موجود. الموجود شوية أحزاب كرتونية. أفهم أن دولة يوليو فطست السياسة لمدة ستين عاما. أفهم هذا. لكن -بغض النظر عن الأسباب- فهذا هو الأمر الواقع. أحزاب كرتونية بلا وجود شعبى حقيقى تعطى نفسها نظام حكم يضخم دورها، ولا تجد من يعارضها. لقد قام النشطاء بالدور ووجهوا أنظارنا نحو «العصفورة». ولقد وفَّى زعماؤها دَينهم نحو النشطاء واتخذوا المواقف البطولية المرضية لهؤلاء فى موضوع المحاكمات العسكرية للمدنيين. حتى لو كانت هذه المواقف لم تقدم ولم تؤخر داخل أروقة اللجنة. حتى لو كانت التحسينات التى حدثت فى المادة حصل عليها فى الواقع من شتمهم هؤلاء النشطاء وشيطنوهم. لقد كان موقف زعماء «أحزاب يناير» محاولة للحصول على «إنجاز إعلامى» للتغطية على انعدام إنجازاتهم العملية. آه نسيت، لقد كتبوا فى الدستور التزام الدولة بالضرائب التصاعدية، وحكومتهم غير المنتخبة أقرت موضوع الحد الأدنى والأقصى للأجور. يا حلاوة.. مش بقول لك يا صديقتى إحنا فى سيرك، مش بيقدم غير فقرة البلياتشو!! هل هذه الخيبة التى قدمها لنا بلياتشوات الأحزاب ستقف عند هذا الحد؟ يا ريت. المشكلة الأولى أنها غالبا ستؤدى بنا إلى حالة تعثر سياسى وعدم قدرة على تشكيل حكومة، أو تكرار حكومات فاشلة، يدفع ثمنها الشعب. أو إلى ابتزاز سياسى تستفيد منه هذه الأحزاب الصغيرة، والمستقلون، ويدفع ثمنه الشعب. والمشكلة الأعقد أنك لو حاولت أن تعالجى هذا الخلل فهناك خيارات ضئيلة جدا. أبرزها أن يتم انتخاب الرئيس أولا، وأن يكون لهذا الرئيس حزب «محسوب عليه»، وبالتالى يمنحه قوة دافعة فى الانتخابات. هذا الخيار يحمل من المخاطر فى المستقبل ما ليس هينا. أولها احتمال أن يؤدى ذلك إلى إعادة إنتاج «نمط» دولة يوليو مع الاتحاد الاشتراكى، ثم مع الحزب الوطنى، لأن أصحاب المصالح فى المحروسة ما هيصدقوا يجروا ورا حزب الرئيس. وبهذا تكون مزايدة الأحزاب وتركيزها على «الشو»، وانجراف الإعلام خلفها، سببا مباشرا فى توصيلنا إلى الوضع الذى يحذر المزايدون منه. طبعا الخيار الآخر لتقليل الخسائر هو أن تتكتل الأحزاب من الآن فى كتل كبيرة، تتفق على المبادئ الأساسية، والخطوط العامة. هل تستطيع أحزابنا أن تفعل هذا؟