أكبر الكاسبين سياسيًّا خلال الفترة الماضية، من وجهة نظرى، هم الثلاثى الشاب فى لجنة الدستور، أحمد عيد وعمرو صلاح ومحمود بدر. لا شك أن كثيرين سيعترضون على هذه الجملة، وأولهم الثلاثى نفسه. لأنهم تعرضوا لانتقادات من كل جهة، ولمزايدات من عشاق المزايدات، الذين أدمنوا اتخاذ المواقف التى تسرق الكاميرات وأجادوا المهارة. كل تقدم حدث فى بند هنا أو هناك كان هؤلاء الشباب قوة دافعة خلفه بمجهودهم وبمساوماتهم السياسية. والأهم، بنكران الذات، وعدم التركيز على اتخاذ الموقف الذى يمنحهم مجدًا شخصيًّا أمام «أصدقائهم»، إنما الموقف الذى يحقق أكبر قدر ممكن من المنفعة، فى ظل الظروف الحالية. وحين أقول أكبر قدر ممكن من المنفعة لا أعنى أكبر قدر مطروح، بل أعنى المساومة على هذا المطروح حتى الخروج بأكبر مكاسب ممكنة. كل هؤلاء الشباب يعارضون المحاكمات العسكرية للمدنيين كما نعارضها نحن. لكن السياسة ليست مرآة للرغبات، بقدر ما هى مرآة للقدرة على المساومة. لو أحصيت عدد من يقولون إنهم ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين من داخل اللجنة لوجدت أنهم قادرون على إبطال التصويت، وبالتالى تعطيل المادة. لكن الحقيقة أن هذا لم يكن فى الظرف السياسى الحالى الإجراء الأمثل. لماذا؟ لأن المعترضين على محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية قد يكتفون بالامتناع عن التصويت، مقابل بنود أخرى تهم أحزابهم وتياراتهم السياسية أكثر من موضوع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. ولو فعلوا ذلك لصفقت لهم الجماهير، تهنئة على موقفهم الشخصى. هؤلاء الشباب استغنوا عن هذا «المجد الشخصى» لصالح تحقيق منفعة لن يصفق لها أحد. وهى المساومة على حصر البنود التى تتم فيها محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. تحدثت إلى أحدهم على التليفون وقلت له إننى شخصيا ضد محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، لكننى جالس فى بيتى، ولست فى وسط المعمعة، وما أسهل الكلام حين تكون بعيدا عن الخيارات المطروحة. كان الخيار الآخر هو إحالة الموضوع إلى البرلمان القادم، لكى يقرر القانون الذى سيحكم الموضوع. مرة أخرى، كانت تلك الإحالة ستعفى «المدنيين» من «عار» التصويت بنعم على المادة، لكنها فى الحقيقة تمهد لمادة أسوأ من التى تم التصويت عليها. لقد شعروا بحسهم السياسى أن البرلمان القادم لن تكون موازين القوى فيه لصالح معارضى المادة. وبالتالى، لو اكتفوا بالإحالة لوفروا على أنفسهم الانتقادات الشخصية، ولكن لانتهى الأمر إلى سلطات أوسع للقضاء العسكرى. لقد ضمنوا تحسين الوضع بقدر الإمكان، ولو سمحت الظروف فى المستقبل سيتحسن أكثر. طيب. لماذا أقول إنهم أبرز الكاسبين؟ لأنهم واجهوا أنفسهم كسياسيين، ونجحوا فى الاختبار، بغض النظر عن اتفاقى أو اختلافى مع النتائج، وعن نيتى التصويتية حين أرى المنتج النهائى، وأشارك فى النقاش حوله. نجحوا فى الاختبار بأن قدموا لنا صورة مختلفة عن المعتادة من السياسيين. لم ينشغلوا بالمواقف «اللى تسمع» بقدر ما انشغلوا بالاشتباك للحصول على الحد الأقصى من المكاسب. فى النهاية، هناك كتل تمثيلية داخل اللجنة، وهذه الكتل هى التى تحدد الموقف النهائى. وكسبوا لأنهم رأوا الحقيقة من الداخل. شاهدوا الفارق بين ما يقال فى السر وما يقال فى العلن من قبل «الرموز» الوطنية. حين خرجت مظاهرة «إسقاط قانون التظاهر» اختارت أن ترفع شعار «لا للمحاكمات العسكرية». وبالتالى كان هؤلاء الشباب فى وجه المدفع، بوصفهم انتهكوا الخط الأحمر لمطالب/أوامر النشطاء. بينما ممثلو الأحزاب التى أصدرت قانون التظاهر فى الحكومة عوملوا كأبطال لمجرد أنهم صوتوا ب«لا» على المادة. وهو تصويت سهل جدا، أسهل كثيرا من المجهود الذى بذله هؤلاء الشباب فى الحصول على ما يستطيعون من تنازلات. لكننا لا نزال بعيدين جدا عن الفصل بين رغباتنا السياسية وبين إدراك حدود قدرة السياسيين على إدراكها. بمعنى أنك من الممكن أن تعترضى على النتيجة النهائية، ومن حقك أن تصوّتى ب«لا»، لكن هذا لا يتعارض مع تقديرك لجهد هؤلاء السياسيين الشباب فى محاولة الوصول إلى أفضل الممكن. هؤلاء الشباب أدركوا أيضا الحجم الحقيقى لمؤسسات الدولة دون مبالغة ولا تضخيم. أدركوا أن «الدولة العميقة» ليست عميقة ولا يحزنون، ولا بتعرف تتآمر ولا يحزنون. أدركوا أن المحصلة السياسية التى نصل إليها انعكاس طبيعى للكتل السياسية فى المجتمع، الموجودة على أرض الواقع، وليس فى التليفزيونات. كل هذا يجعلنى أتفاءل بجيل جديد من الشباب، أفضل ممن سبق. شبعنا شعارات يا ناس!