كرسي خشبي يجاروه طبق ملئ بالأساور النحاسية يتناول الواحدة تلو الأخرى يتابع حواف تقطيعها ورسمها ثم يقربها من ماتوره يلمعها وينقيها لتكون كالمولود الجديد الجاهز للاحتفال يضعها بجوار سابقيها في وراء لوح زجاجي لامع على بعد خطوات من مسجد الحاكم بأمر الله، يجلس إيهاب خلف كرسيه وأصابع تروي الكثير من رحلة طويلة مع النحاس بات فيها جزء لا يتجزء من شخصه. اسم له مكانة بين سوق النحاسين "أبو داليا" معروف بجودة عمله حبه له حد الاتقان الشديد لكافة تفاصيله البسيطة والمعقدة، رحلة ورثها عن والده وتابع توريثها إلى ابنه، إيهاب مجدي، مذ كان طفل على وشك دخول المدرسة أراد والده أن يدخله مدرسة النحاس وعالمه الخصب بجانب مدرسته التعليمية، ينهل له من موهبته ويعلمه صغيرها وكبيرها حتى بات إيهاب يفعل الأمر نفسه مع ابنه وابنته مؤمنًا أن التعليم هام لكن أن تملك بين يديك حرفة لا يقل أهمية. يبحث إيهاب عن أسلوبه الخاص في إحياء روح النحاس بعد أن بات معدن له قيمة مضاعفة، يرغب في أن يلفت اتجاه العالم أجمع والمصريين أولا لذلك المعدن النفيس ذو الطبيعة المميزة، فكما تعلق الانتيكات النحاسية حول العالم محتفين بقيمته كذلك يريد إيهاب أن يجعل النحاس والأعمال اليدوية بشارع المعز ضيف دائم في كل بيت يبحث عن القيمة الحضارية والتراثية بأسلوب حديث. ويوضح أيهاب خلال حواره ل"التحرير":عايز اعلم أجيال تانية تعمل أحسن من اللي بنعمله عشان الصنعة مش تموت وتنفع الجيل الجي من الشباب، وبدل ما يكون وقتهم فاضي، نقدر من خلال ندوات وورش عمل إننا نعلمهم الصنعة ويقدروا يكسبوا من وراها فلوس بإيديهم". ورشة جد إيهاب بدأت صغيرة في الخرانفش على بعد خطوات من شارع المعز إلا أن والده ثم هو حاولا التطوير منها إلى أن باتت مصنع متخصص في المشغولات الفضية والنحاسية المصنوعة يدويًا بشكل حرفي ويسعى إيهاب لنقل حرفته التي تخطى معرفته بها قرابة الأربعين عام إلى كل باحث عن العلم يفتح له أبواب مصنعه بترحاب كامل له يتعلم على الطبيعة ليتمكن من عمله ويصبح حرفة له، ولن يقف عند ذلك الأمر فمع بداية نجاح مشروعه يسعى لمخاطبة وزارات الثقافة والسياحة والآثار للاهتمام بالقيمة التي يحملها النحاس وشارع المعز والعاملين فيه. ويروي أبو داليا عن حلمه: "مشروع يعلم النحاس في كافة أشكاله أسورة، حلة، صنية طبلية، كل حاجة ممكن تتعمل من النحاس زي ما لسه منتجات شوارعنا بتتعلق في الدول العربية كقطع أثريه وتراثيه لي مش نرجعها تاني وبمصنعية دقيقة ومميزة على عكس شغل الألومنيون والاستانلس، نرجع نصنع النحاس بشكل كبير واحترافي ونعرف قيمته الحقيقة، تحت شعار دولي هاند ميد.. صنع في مصر" والشارع كله يكون واجهة حضارية تتعرف في كل دول العالم.. سبب نجاح تركيا إنها عرفت نقطة قوتها في تراثها وواهتمت بيها، إحنا عندنا بنهد الأثر ونطلع مكانه عماره". تبدلت الأسعار وبات لغة السوق متقلبة فباتت النحاس يحل محل الفضة وباتت الفضة تحل محل الذهب وبات الذهب صعب المنال على الفقراء، ليصبح مستقبل المشغولات اليدوية هو المسيطر على الساحة، ويعرب إيهاب: النحاس بجودته ومصنعيته اللي صعب تتنفذ في الفضة والدهب هيكون جزء من ديكور كل بيت وأساس في كل حاجة بسبب خامته العالية". وعقب عم ممدوح صاحب الخبرة التي تتخطى 50 عام ويزيد عاشها مع ابيها في فترة الخمسينات والستينات ويروي عن ماضي النحاس: " والدي كان شغال في الالومنيوم في فترة الخمسينات جت ظهرت الألومنيوم وقف شغل فيه وبدأ يشتغل في الألومنيوم وبعدها ظهر التيفال والاستانلس وشغل المصانع، لكن رجعت أنا بعد كده مع بداية وجود الشارع وجوع روحه إني اشتغل في النحاس تاني". ويكمل صاحب خبرة الخمسين عام في النحاس: " النحاس رجع بس غلي يعني كيلو النحاس اللي كان بيجي من شهرين ب90 بقى ب160، شغل النحاس بقى مختلف الحاجة الرقيقة بقت هي المسيطرة لكن شغل تقبل زي زمان بقى صعب، أنا بشتري النحاس القديم وببيعه رخيص لكن لو زبون طلب نفس الشغل تاني بنقدر نعمله لكن بيكون غالي 4 أضعاف لآن النحاس كله بقى مستورد بعد ما مصنع عبد الناصر اتقفل، لكن لسه ليه قيمته وكل يوم بيغلى أكتر".
بدأت رحلة إيهاب مع ميدالية وسبحه قام بتنفيذها وقدمها لوالده حين كان في ال14 من عمره حتى بات يملك مصنعه ومحله الخاص، بل يسعى إلى أن تكون ورشته الصغيرة بمحله بجانب مصنعه طريق ممهد لمحبي التعلم من كافة الفئات يقدم لهم من خبرته ويحيى بلمساته المعدنية روح ذلك المعدن الحاني على الفقراء قبل أن يلحق بالذهب.