أول من أمس أعلن السيد محمود عباس رئيس ما يسمى «السلطة الفلسطينية» فى الأراضى المحتلة أن فريقه الذى عاد فى شهر يوليو الماضى إلى استئناف المفاوضات العبثية مع العدو الإسرائيلى (بدأت من عشرين عاما) سلمه استقالة جماعية احتجاجا، ليس فقط على عدم تحقيق أى تقدم يذكر، وإنما أيضا لاستمرار الصهاينة فى قضم واغتصاب ما تبقى من أرض فلسطين عبر تصعيد عمليات توطين البزرميط البشرى المستجلب من أصقاع بعيدة!! هذا الخبر يهدينا الدليل رقم مليون على فشل وبؤس ذلك الاختراع العجيب الذى لم يسبقنا إليه أحد من أمم الدنيا، ألا هو إسقاط حق المقاومة بشتى صورها والتوقف عن إلحاق أى أذى بالعدو أو تكبيده أى خسارة، واستبدال بذلك كله الرهان على إقناعه بالحسنى عبر جلسات تحضير أرواح طويلة ومفاوضات أبدية يكتفى خلالها مفاوضونا بمرافعات عبيطة وأهازيج وأغانٍ هابطة ل«السلام» و«العملية» وخلافه!! لقد قام صرح اختراع «عجلة العملية»، وتأسست ثقافة الاستسلام للعدو واعتباره «خيارا وجزرا» استراتيجيا وحيدا وحتميا، على فرضيتين رئيسيتين، أولاهما أن حرب الجيوش النظامية هى البديل الوحيد لركوب «العجلة» إياها والانطلاق بها نحو الاستسلام الشامل والتنازل عن كل الحقوق، والفرضية الثانية هى أن العرب لا يمكنهم محاربة إسرائيل المدعومة بأمريكا، ليس فقط لعجز إمكانياتهم الحربية، ولكن أيضا لأن الحرب سوف تأتى على حساب خطط التنمية وتدمرها!! والحقيقة أن هاتين الفرضيتين فاسدتان فسادا ظاهرا وكلتاهما محض تزوير وكذب ونصب مفضوح للأسباب والحقائق التالية: أولا: أن صور وأساليب المقاومة التى أبدعتها الإنسانية (بمن فيها شعوبنا) لا تكاد تعد ولا تحصى، كما أنها تتنوع فى طبيعتها وأشكالها تنوعًا هائلًا وتتسع لممارستها جبهات تمتد من الاقتصاد والسياسة إلى العنف النبيل المتجسد فى العمل الفدائى.. بمعنى أن الذى لا تتيسر له ظروف وإمكانات أن يحارب بالجيوش النظامية لتحرير أرضه وانتزاع حقوقه، يمكنه أن يقاوم عدوه ويقض مضاجعه ويلحق به الأذى والضرر بمليون طريقة أخرى. ثانيا: ومع ذلك لا توجد فى هذه الدنيا كذبة أكبر وأكثر وقاحة واستخفافا بالعقل من أكذوبة أن الأمة العربية لا تملك إمكانات الحروب العسكرية، فالواقع القائم فعلا يقول إن أنظمة الحكم الرازحة على قلوب أغلب شعوبنا، ما زالت تنفق ببزخ على تكديس السلاح وبناء ترسانات حربية هائلة، بل وتخوض بالفعل حروبا بالوكالة عن القوى العالمية التى تدعم هذه الأنظمة وإسرائيل معا، مما يكلف دول وأقطار أمتنا أكثر من 60 مليار دولار سنويًّا، مما يضعها على رأس قائمة أكثر دول العالم إنفاقا على التسلح!! ثالثا: أما حجة الخوف على التنمية فهى أكذوبة تحلق فى أعلى سماوات المسخرة، إذ أن الحقيقة التى تخزق عين الأعمى أنه فى ظل الالتزام الصارم بسياسة «العملية» وخيار الاستسلام والتنازلات المجانية للعدو الصهيونى على مدى أكثر من ثلاثة عقود كاملة، تراجعت معدلات النمو فى الغالبية الساحقة من أقطارنا وتفاقم البؤس والتأخر فى مجتمعاتنا حتى لامس الحضيض شخصيا، وتكفى هنا مجرد إشارة إلى أن دول أمتنا (بما فيها النفطية) أضحت مصنفة لدى البنك الدولى باعتبارها ضمن الشريحة العليا للبلدان الأقل دخلا، أو فى أفضل الأحوال، فى الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، لكنها ولا فخر الأعلى فى معدلات البطالة. إذن.. تحت سقف هذه المعطيات والحقائق، ومع افتراض أن تغييرها عن طريق الخلاص من عدو الداخل الرابض على أنفاسنا، أمر ليس متوقعا بلوغه فى المدى المنظور.. ما الحل الواقعى الذى يضمن عدم الضياع النهائى لحقوقنا ومقدساتنا فى فلسطين ويكفل بقاء الحدود الدنيا من خطوط الدفاع صلبة ومتماسكة؟! قلت من قبل إن هناك حلًا مرحليًّا وحيدًا، هو ببساطة الإعلان الفورى عن حل هذه «السلطة» المزعومة التى تحمى وتجمل جرائم الاغتصاب وينشغل بمغانمها الأشاوس الحمساويون فى غزة ومنافسوهم فى الضفة الغربية. باختصار، الحل هو تفكيك وحل «مشروع الاحتلال منخفض التكاليف» الذى أفرزته اتفاقيات «أوسلو» المشؤومة، وإذا حدث ذلك فسوف يكون هناك خياران اثنان. أحدهما يمثل الحد الأقصى فى هذه المرحلة، والثانى هو أضعف الإيمان فحسب.. الخيار الأول هو اشتعال المقاومة الشعبية بكل صورها فى وجه الاحتلال، بينما هو عارٍ تماما من الديكور الحالى، والثانى أن نترك «أرحام الأمهات» الفلسطينيات تقاوم وتحفظ القضية إلى أن نشفى من عجزنا.. كيف؟! أن أسوأ احتمالات الخطر الوجودى الذى يتحسب له العدو ويخشاه بوصفه كيانًا عنصريًّا اغتصابيًّا، هو ما يسمونه فى أدبيات الفكر الاستراتيجى الصهيونى «الخطر الديموجرافى» أو التزايد السكانى للعرب الفلسطنيين الصامدين على أرض الوطن، ولكى تعرف عزيزى القارئ مدى جدية هذا الخطر وفاعلية سلاح «الأرحام»، دعنى أختم بالأرقام الآتية: طبقًا للإحصاءات الرسمية الإسرائيلية والفلسطينية فإن عدد المقيمين حاليا على أرض فلسطين التاريخية يبلغ نحو 11 مليون نسمة، نصفهم من اليهود (أو ممن يدّعون اليهودية)، والنصف الثانى من العرب الفلسطينيين. كما أن أكثر ما يخلع قلوب المخططين الاستراتيجيين فى الكيان الصهيونى أن معدلات الزيادة الطبيعية والولادات فى أوساط اليهود لا تتعدى ال1٫6 فى المائة، مقابل ضعف هذه النسبة (أو أكثر) عند السكان العرب سواء فى الأراضى المحتلة عام 1948 أو فى الضفة والقطاع، وهو أمر يجعل التفوق السكانى العربى منظورًا ومتوقعًا فى الأمد القريب جدا.. فإذا أضفنا 5 ملايين لاجئ فلسطينى يقيمون حاليا فى الشتات، ولو علمنا أن عدد كل يهود العالم حاليا يكاد يقترب من عدد الفلسطنيين، فسنقتنع فورا أن الحل قد يكون فى «أرحام الأمهات».