.. قام صرح اختراع عجلة «العملية»، وتأسست ثقافة الاستسلام للعدو واعتباره «خيارًا وجزرًا» استراتيجيًا وحيدًا وحتميًا، علي فرضيتين رئيسيتين، أولاهما أن حرب الجيوش النظامية هي البديل الوحيد لركوب «العجلة» إياها والانطلاق بها نحو الاستسلام الشامل والتنازل عن كل الحقوق، والفرضية الثانية أن العرب لا يمكنهم محاربة إسرائيل المدعومة بأمريكا، ليس فقط لعجز إمكاناتهم الحربية، ولكن أيضا لأن الحرب سوف تأتي علي حساب خطط التنمية وتدمرها!! والحقيقة أن الفرضيتين هاتين فاسدتان فسادا ظاهرا، وكلتاهما محض تزوير وكذب ونصب مفضوح للأسباب والحقائق الآتية: أولا: إن صور وأساليب المقاومة (ما دون حروب الجيوش) التي أبدعتها شعوب الإنسانية عبر التاريخ، وكان ومايزال لشعوب أمتنا إسهام بارز فيها لاتكاد تُعد أو تُحصي، كما أنها تتنوع في طبيعتها وأشكالها تنوعًا هائلا وتتسع لممارستها جبهات تمتد من الاقتصاد والسياسة إلي العنف النبيل المتجسد في العمل الفدائي.. بمعني أن الذي لا تتيسر له ظروف وإمكانات أن يحارب بالجيوش لتحرير أرضه وانتزاع حقوقه، يمكنه أن يقاوم عدوه ويقض مضاجعه ويلحق به الأذي والضرر بمليون طريقة أخري. ثانيًا: ومع ذلك لا توجد في هذه الدنيا كذبة أكبر وأكثر وقاحة واستخفافًا بالعقل من أكذوبة أن الأمة العربية لا تملك إمكانات الحروب العسكرية، فالواقع القائم فعلا يقول إن أنظمة الحكم الجاثمة علي قلوبنا والتي لم ينتخبها أو يختارها أحد، تنفق علي تكديس السلاح وبناء ترسانات حربية هائلة، بل تخوض بالفعل حروبًا بالوكالة عن القوي العالمية التي تدعم هذه الأنظمة وإسرائيل معًا، مما يكلف دول وأقطار أمتنا أكثر من 60 مليار دولار سنويًا ويضعها بغير منازع علي رأس دول العالم الأكثر إنفاقًا علي التسلح وأعلاها (بالمطلق) في نسبة هذا الإنفاق إلي إجمالي الدخل القومي. ثالثًا: أما حجة الخوف علي التنمية فهي أكذوبة تحلق في أعلي سماوات المسخرة، إذ إن الحقيقة التي تخزق عين الأعمي أنه في ظل الالتزام الصارم بسياسة «العملية» وخيار الاستسلام والتنازلات المجانية للعدو الصهيوني علي مدي ثلاثة عقود كاملة، تراجعت معدلات النمو في الغالبية الساحقة من أقطارنا وتفاقم البؤس والتأخر في مجتمعاتنا حتي لامسا الحضيض شخصيًا، وتكفي هنا الإشارة العابرة إلي أن دول أمتنا (بما فيها النفطية) أضحت مصنفة لدي البنك الدولي باعتبارها ضمن الشريحة العليا للبلدان الأقل دخلا أو في أفضل الأحوال في الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، لكنها (ولا فخر) الأعلي في معدلات البطالة. إذن.. تحت سقف هذه المعطيات والحقائق، ومع افتراض منطقي أن تغييرها عن طريق إنجاز الخلاص من عدو الداخل الرابض علي أنفاسنا، أمر ليس متوقعًا بلوغه في المدي المنظور.. ما هو الحل الواقعي الذي يضمن عدم الضياع النهائي لحقوقنا ومقدساتنا في فلسطين ويكفل بقاء الحدود الدنيا من خطوط الدفاع صلبة ومتماسكة؟! لست أري الآن غير حل مرحلي من نقطة واحدة لابد أن تتحول إلي شعار ومطلب واحد لكل القوي الشعبية وكل المواطنين العرب علي امتداد ساحات الأمة، ألا وهو ضرورة الإعلان الفوري عن حل «السلطة» المزعومة التي تحمي وتجمِّل جرائم الاغتصاب.. باختصار، تفكيك «مشروع الاحتلال منخفض التكاليف» الذي أفرزته اتفاقيات أوسلو المشئومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإذا حدث ذلك فسوف يكون هناك خياران اثنان، أحدهما يمثل الحد الأقصي في هذه المرحلة، والثاني هو أضعف الإيمان فحسب. الخيار الأول هو اشتعال المقاومة الشعبية بكل صورها في وجه الاحتلال بينما هو عارٍ تمامًا من الديكور الحالي، والثاني أن نترك «أرحام الأمهات» الفلسطينيات تقاوم وتحفظ القضية إلي أن نشفي من عجزنا.. كيف؟! إن أسوأ احتمالات الخطر الوجودي الذي يتحسب له العدو ويخشاه بوصفه كيانًا عنصريًا اغتصابيًا، هو ما يسمونه في أدبيات الفكر الاستراتيجي الصهيوني «الخطر الديموجرافي» أو التزايد السكاني للعرب الفلسطينيين الصامدين علي أرض الوطن، ولكي تعرف عزيزي القارئ مدي جدية هذا الخطر وفاعلية سلاح «الأرحام»، دعني أختم بالأرقام الآتية: طبقا للإحصاءات الرسمية الإسرائيلية والفلسطينية فإن عدد المقيمين حاليًا علي أرض فلسطين التاريخية (بمن فيهم الغرباء المستجلبون) نحو 11 مليون نسمة، نصفهم من اليهود (أو ممن يدعون اليهودية) والنصف الثاني من العرب الفلسطينيين. كما أن أكثر ما يخلع قلوب المخططين الاستراتيجيين في الكيان الصهيوني أن معدلات الزيادة الطبيعية والولادات في أوساط اليهود لا تتعدي 1,6 في المائة، مقابل ضعف هذه النسبة ( أو أكثر)عند السكان العرب سواء في الأراضي المحتلة عام 1948 أو في الضفة والقطاع، وهو أمر يجعل التفوق السكاني العربي منظورًا ومتوقعًا في الأمد القريب جدًا.. فإذا أضفنا 5 ملايين لاجئ فلسطيني يقيمون حاليًا في الشتات، ولو علمنا أن عدد كل يهود العالم حاليًا يكاد يقترب من عدد الفلسطينيين، فسنقتنع فورًا بأن الحل في «أرحام الأمهات»، فاعتمدوا عليهن حتي تغيروا ما بأنفسكم أو يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.