شهران مَرَّا حتى الآن منذ أن بدأت جولة جديدة من العبث التاريخى الذى يسمُّونه من باب الدلع «مفوضات التسوية» بين العدو الإسرائيلى وما يسمى «سلطة الحكم الذاتى» الفلسطينية التى هى فى الحقيقة مجرد واجهة بائسة لاختراع عجيب غريب هو، تحولت بمقتضاه أسوأ وأبشع وأكبر عملية سرقة فى تاريخ الإنسانية إلى «احتلال منخفض التكاليف» يتولى بمقتضاه الرازحون تحت الاغتصاب مهمة حفظ أمن الغزاة وضمان استقرارهم غير الشرعى على جثة الوطن المغتصَب، مقابل بضع سيارات سوداء وحفنة مناصب تافهة يتقاتل عليها الواقعون تحت الاحتلال (راجع ما فعلَته «حماس» فى غزة) ثم بعد ذلك كان الله بالسر عليمًا. شهران أنقضيا ولا شىء إلا المزيد من المهانة والمزيد من السباحة فى الأوهام والمزيد من ضياع الأرض وانتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية، يحدث هذا رغم أن الكيان الصهيونى يعانى فعلا ومنذ سنوات طويلة، ليس فقط انكشافا وتعرِّيًا شبه كامل من أى غطاء قانونى وأخلاقى، وإنما أيضا تنخر فى بنيانه أعراض أزمة وجودية عميقة وحقيقية جعلته باقيا ومستمرا فى إجرامه وعدوانه وسرقة أراضينا وحقوقنا ومقدساتنا، ليس بكفاءته وقواه الذاتية (حتى وهو مدجج ومسلح حتى الأسنان بآلة قتل وتدمير رهيبة) وإنما لأنه يواجه أمامه فراغا وخرابا وتخلفا وبؤسا عربيا واسع النطاق. الكلام السابق ليس وليد تفكير بالأمانى فى أمر العدو، لكنه يستند إلى ظواهر وأعراض وحقائق مادية تكاد تنطق بالحالة المزرية المجنونة التى يتردَّى فيها حاليا كيان اغتصابى وعنصرى لطالما أسبغنا عليه قدرات وميزات أكثرها يلامس حدود الخرافة شخصيًّا، هذه الحال، نستطيع ملامسة ملامحها فى حزمة من الظواهر والمعطيات وسلسلة طويلة من الممارسات والارتكابات يضيق المجال عن رصدها وتفصيلها جميعا، إلا أن الإشارة السريعة إلى بعضها ربما توفر حيثيات الاقتناع بأنه لا مبرر ولا سبب منطقى لكل هذا الانسحاق والانهزام والتخاذل أمام عدو يعانى على سبيل المثال لا الحصر من الآتى: أولا- نضج مفاعيل وتأثيرات مجتمع «البزرميط البشرى» المستجلَب من شتى بلدان الدنيا والمنزوع من بيئات وأعراق وثقافات متفاوتة ومتنافرة ليسكن أرض فلسطين المسروقة، وقد تفاقم هذا «البزرميط» واستفحلت أعراضه ونتائجه فى العقدين الأخيرين حتى أضحى ثُلث السكان اليهود الحاليين فى الكيان الصهيونى ليسوا فقط مستوردين ومستجلَبين حديثا إلى أرض لا يعرفونها ووطن لا علاقة لهم به، وإنما نسبة لا بأس بها منهم «مدَّعو يهودية» كذبًا ولأسباب أنتهازية بحتة، مما يجعلهم يعيشون ويتصرفون فى «الملجأ» الجديد بعقلية ووجدان «المرتزقة» لا المواطنين. ثانيا- هؤلاء المرتزقة باتوا مسؤولين عن جزء لا يُستهان به من التطرف و«المزاج الدموى» الهستيرى الذى ينزلق إليه ويغوص فيه المجتمع الصهيونى الراهن باضطراد واضح، إذ من عادة «المرتزق» إبداء أكبر قدر من القسوة والتشدد والاستعداد للقتل المجانى وإراقة الدماء دون استعداد مماثل لتحمل أى كُلفة مادية، وهو ما يفسر تلك المفارقة المدهشة المتمثلة فى أن ميل مجتمع العدو إلى التطرف والجنون فى السنوات الأخيرة واكبه تزايد ملحوظ فى معدلات الهجرة المعاكسة خصوصا فى أوقات التوتر والحروب العدوانية، ويكفى هنا الإشارة إلى أنه من بين 6 ملايين من السكان اليهود فى فلسطينالمحتلة هناك الآن ما يزيد على المليون (أغلبهم من المهاجرين الجدد) أصبحوا يقيمون إقامات دائمة خارج الكيان ونسبة كبيرة منهم قد لا تعود أبدا. ثالثا- أفرز هذا «البزرميط» إنتاجا محليا من قيادات الطبقة السياسية الإسرائيلية لا تكاد تشبه فى شىء، خصوصا من حيث مواصفات الكفاءة والدهاء السياسى، ما كانت تتمتع به الطبقة السياسية القديمة التى أسَّست الكيان وكانت كلها «مستوردة» ومؤهَّلة تدريبا وتثقيفا فى مجتمعات دول الغرب المتقدمة، ويظهر الفَرق بين نوعية القيادتين جليًّا واضحًا فى الأداء المنخفض الذى طبع السلوك الإسرائيلى فى العقد الأخير بالذات والذى يتبدَّى أساسا فى الاعتماد شبه المطلق على استخدام القوة الساحقة العارية من أى زواق قانونى أو أخلاقى، ما جعل ترسانة السلاح الأمريكية الخرافية تتحول فى أحيان كثيرة إلى عبء ضاغط بعنف على مهارات السياسة وأغراضها يصل أحيانا إلى درجة تحقيق نتائج عكسية والفوز بهزيمة سياسية مؤلمة تتألق وتبرز وسط شلالات الدم ومظاهر دمار وخراب هائلين (انظر إلى نتائج الحروب الإجرامية على جنوب لبنان وغزة الأخيرة وغيرها). باختصار.. انتصارنا على العدو الصهيونى وتقريب يوم هزيمته وتفكيك وإزالة كيانه العنصرى اللقيط المعادى لمنطق التاريخ والحضارة الإنسانيين، أمر ممكن، بل لعله الممكن الوحيد.. بشرط أن نعمل بجد للخلاص السريع من أسباب خيبتنا وعوامل تأخرنا وهزيمتنا الذاتية.. وصباح الخير يا أمة العرب.