لا يحتاج المرأ إلا لنذر بسيط من الذكاء والبصيرة حتي يلاحظ أن أهم حصاد عملية القرصنة والاعتداء الإجرامي الوحشي علي سفن «أسطول الحرية» لغزة كان خيبة تكتيكية بعيدة الأثر وإنكشافاً أخلاقياً وقانونياً مؤذياً جداً لدولة الصهاينة أمام الدنيا بما يراكم المزيد من دواعي وأسباب نبذها وعزلتها الإنسانية التي لابد أن تفضي بدورها إلي تآكل في مخزون «القوة السياسية» المعتمد أصلا كما الترسانة الحربية علي المدد الأمريكي والدعم التغطية اللامحدودين اللذين توفرهما واشنطن لحليفها الشقي المدلل دائما وفي كل الأحوال والمحافل. وأظنني كتبت في هذه الزاوية من قبل ما معناه أن الكيان الصهيوني يعاني حاليا أعراض أزمة وجودية عميقة وحقيقية، وهو باق ومستمر في إجرامه وعدوانه وسرقة أراضينا وحقوقنا ومقدساتنا، ليس بكفاءته وقوته الذاتية (حتي وهو مدجج ومسلح حتي الأسنان بآلة قتل وتدمير رهيبة) وإنما لأنه يواجه أمامه فراغاً وخراباً وتخلفاً وبؤساً عربياً واسع النطاق تحرسه وتسهر علي تنميته نوعية من الحكام والنظم تمدحها لو أكتفيت بوصفها أنها قمعية وديكتاتورية وفاسدة، إذ أن أغلبها والله العظيم أسوأ وأكثر قسوة من أي أستعمار أجنبي. الكلام السابق ليس إمعانا في سب وهجاء حكامنا(وهم يستحقون علي كل حال) ولا هو وليد تفكير بالأماني في أمر العدو، لكنه يستند إلي ظواهر وأعراض وحقائق مادية تكاد تنطق بالحالة المذرية المجنونة التي يتردي فيها حالياً كيان إغتصابي وعنصري لطالما أسبغنا عليه قدرات وميزات وكفاءات أكثرها يلامس حدود الخرافة شخصيا، هذه الحالة يمكن بشئ من التأمل الواعي قراءة ملامحها في حزمة من المعطيات وسلسلة طويلة من الممارسات والارتكابات يضيق المجال بشدة عن رصدها وتفصيلها جميعاً، إلا أن الإشارة السريعة إلي بعضها ربما توفر حيثيات الإقتناع بأن لامبرر ولاسبب منطقيا لكل هذا الانسحاق والانهزام والتخازل أمام عدو يعاني علي سبيل المثال لا الحصر من الآتي: أولا: نضج مفاعيل وتأثيرات مجتمع «البزرميط البشري» المستجلب من شتي بلدان الدنيا والمنزوع من بيئات وأعراق وثقافات متفاوتة ومتنافرة ليسكن أرض فلسطين المسروقة، وقد تفاقم هذا «البزرميط» واستفحلت أعراضه ونتائجه في العقدين الأخيرين حتي أضحي ثلث السكان اليهود الحاليين في الكيان الصهيوني ليسوا فقط مستوردين ومستجلبين حديثا إلي أرض لا يعرفونها ووطن لا علاقة لهم به، وإنما نسبة لابأس بها منهم «مدعي يهودية» كذباً ولأسباب أنتهازية بحتة، ما يجعلهم يعيشون ويتصرفون في «الملجئ» الجديد بعقلية ووجدان «المرتزقة» لا المواطنين. ثانيا : هؤلاء المرتزقة باتوا مسئولين عن جزء لا يستهان به من التطرف و«المزاج الدموي» الهستيري الذي ينزلق أليه ويغوص فيه المجتمع الصهيوني الراهن باضطراد واضح، إذ من عادة «المرتزق» إبداء أكبر قدر من القسوة والتشدد والاستعداد للقتل المجاني وإراقة الدماء دون استعداد مماثل لتحمل أية كلفة مادية، وهو ما يفسر تلك المفارقة المدهشة المتمثلة في أن ميل مجتمع العدو للتطرف والجنون في السنوات الأخيرة واكبه تزايد ملحوظ في معدلات الهجرة المعاكسة خصوصا في أوقات التوتر والحروب العدوانية، ويكفي هنا الإشارة إلي أنه من بين 6 ملايين من السكان اليهود في فلسطينالمحتلة هناك الآن مايزيد عن المليون (أغلبهم من المهاجرين الجدد) أصبحوا يقيمون إقامات دائمة خارج الكيان ونسبة كبيرة منهم قد لا تعود أبدا. ثالثاً : أفرز هذا «البزرميط» إنتاجاً محلياً من قيادات الطبقة السياسية الإسرائيلية لاتكاد تشبه في شئ، خصوصا من حيث مواصفات الكفاءة والدهاء السياسي، ما كانت تتمتع به الطبقة السياسية القديمة التي أسست الكيان وكانت كلها «مستوردة» ومؤهلة تدريبا وتثقيفا في مجتمعات دول الغرب المتقدمة، ويظهر الفرق بين نوعية القيادتين جلياً واضحاً في الآداء المنخفض الذي طبع السلوك الإسرائيلي في العقد الأخير بالذات والذي يتبدي أساسا في الاعتماد شبه المطلق علي استخدام القوة الساحقة العارية من أي زواق قانوني أو أخلاقي، ما جعل ترسانة السلاح الأمريكية الخرافية تتحول في أحيان كثيرة إلي عبء ضاغط بعنف علي مهارات السياسة وأغراضها يصل أحيانا إلي درجة تحقيق نتائج عكسية والفوز بهزيمة سياسية مؤلمة تتألق وتبرز وسط شلالات الدم ومظاهر دمار وخراب هائلين (أنظر إلي نتائج الحروب الإجرامية علي جنوب لبنان، وحرب غزة الأخيرة، وحرب الحصار، وعملية إغتيال المبحوح في دبي، وأخيراً.. عملية القرصنة الفاجرة ضد أسطول الحرية). بإختصار.. انتصارنا علي العدو الصهيوني وتقريب يوم هزيمته وتفكيك وإزالة كيانه العنصري اللقيط المعادي لمنطق التاريخ والحضارة الإنسانيين، أمر ممكن، بل لعله الممكن الوحيد.. بشرط أن نعمل بجد للخلاص السريع من أسباب خيبتنا وعوامل هزيمتنا الذاتية.. وصباح الخير ياوطن.